يقول الإمام الشافعي
أعرض عن الجاهل السفيه فكل ما قال فهو فيـــــــــــه
ما ضر بحر الفرات يومـــاً إن خاض بعض الكلاب فيه
أردد هذه الكلمات كلما عبرت فوقك يا فرات ومع علمي بِأن كلمة بحر تعني في قواميس اللغة نهر و أن الشافعي كان يقصد النهر إلا أنني صرت على يقين بأن هذا الفرات العظيم الذي كان بحراً وصار نهراً ثم أصبح ساقية و أخشى كل ما أخشاه أن يتحول إلى مستنقع آسن فيمر المارة فوق هذا الجسر ليقولوا هذا مستنقع الفرات.
آه أيها الفرات كم عشقناك وكم أحببناك وكم تداخلت أحلامنا مع أحلامك لتمتزج وتتكسر على جروفك الحادة.
لقد امتزج ماء الفرات مع دماء أبناءِهِ وساهم ببناء شخصياتهم وتسربل إلى أفئدتهم ليعيش معهم وليشكل علاقته الأزلية بمصائرهم.
فهذا الفلاح الذي يعشق الأرض يقدس الفرات مع ضيق ذات اليد واسوداد الأفق وتحطم الآمال وازدياد الآلام, وذاك الشاب الذي هاجر إلى أوروبا بحثاً عن حلم ضائع ومصيرٍ مجهول وأملٍ لم يكتمل يحن إلى الفرات.
الفرات ملحمة في أذهان أبنائه وسبب من أسباب وجودهم .
الفرات شريان الحياة الذي يكاد ينقطع. ........ وشمعة أمل تكاد تنطفئ........ الفرات آه منك أيها الفرات
كم تجاهلناك وتناسينا فضلك علينا و أغمضنا عيوننا عنك .
الفرات العظيم يحتاج إلى أبناء عظماء يعرفون قدره ويهّبون لنجدته ........... نجدته : نجدته ممن ؟
نجدته من الغرباء الذين لوثوا ماءَه وخربوا زرعه وحولوا ضفافه الجميلة إلى ملاهٍ ليلية يرتع فيها البوم والغربان.
الفرات المخذول من أبناءه قبل غيرهم يئن.
أكاد أسمع صوت أنينه .............. أحياناً يكون خافتاً كمن لا يريد الفضيحة.
وفي أوقات المحن يعلو ليصبح زمجرةً و هديراً .
ولكن الفرات كالأم الحنون لا يستطيع أن يؤذي أحبابه وزواره ......... لذلك سرعان ما يخفت الصوت وتبقى الحسرات والأنات حبيسة شطآنه.
شطآنه التي لوثوها بعلب البيبسي ومصارف المجارير ومكبات ملاهي الخنازير.
شطآنه التي جاءوا بكل أدران البشر ليلقوها فيها.
الفرات يندمج في وجدان أبناءه ليصبح معهم كياناً واحداً لا يتجزأ.
فكم ابتلعت مياهه من أبناءه غرقى ولكن هذا لم يجعله عرضةً لعقوق أبناءه لأنهم يعلمون أنه أب مسكين يئن لفقد أبناءه ولكنه:
لا يستطيع تطبيق معايير الأمان على شطآن.
ولا يمتلك ميزانياتٍ ضخمة لتأمين فرق إنقاذٍ ماهرةٍ قادرةٍ على إنقاذ الغرقى ممن يتساقطون كل صيف بالعشرات.
لا يستطيع إقامة محطات معالجة للصرف الصحي لأنه الوحيد الذي يئن لغيابها.
لا يستطيع أن يقيم منشآت نظيفة على ضفافه.
ولا يستطيع تنظيف ضفافه من السياحة القذرة.
فهل هو من دعاة السياحة النظيفة ........ لماذا مطالبون نحن أن نقيم دراما نظيفة وسياحة نظيفة ومدارس نظيفة ودوائر حكومية نظيفة وشوارع نظيفة.
هل السبب أن كل ما حولنا قذر مشوه.
هل السبب قذارة الشوارع والمرافق والأبنية و الشواطئ أم قذارة الإنسان نفسه .
آه منك أيها الفرات كم نحتاج طهرك كي نغتسل و نشعر بأن قذارتنا قد خفت.
فهل تستطيع ذلك أيها الحبيب .......
أشك في ذلك وأخشى أن تتحول إلى نهرٍ آسنٍ من جيفه أبنائك.
منذ فترة كتب احد المدونين الشباب تدوينه يتكلم فيها عن صفات فارس الأحلام لبنت القرن الواحد والعشرين ، ومن ضمن شروط العروس ذكر لنا ( شقة على النيل )، علقت على تدوينه بسؤال استنكاري ؟
لماذا لم تقل شقة على الفرات ؟
أو شقة على بردى أو شقة على العاصي ؟
وكان الجواب فجاً قبيحاً قبح أوضاعنا ، كان بمثابة صدمة لي وللكثير من أمثالي ،مع علمي بالواقع المرير وإدراكي لكافه تفصيلاته فإنني فوجئت به يقول لي :
شقة على النيل كناية على الشقة الفارهة الفاخرة :
فالشقة على الفرات : تعني أن السكان بدو.
والشقة على بردى : تعني أن البيوت عادية لأناس بسطاء.
لماذا في جميع دول العالم تقام مشاريع جبارة سياحية وزراعية على ضفاف ما يسمى اصطلاحاً أنهاراً وهي بالحقيقة عبارة عن صرف صحي .
ونحن نقلل من شانك أيها الفرات.
ونبكي على أطلالك يا بردى.
ونحن إلى أيامك يا خابور.
الجفاف يزحف والغربان تحوم والجوع (الذي يضرب مشارق الدنيا ومغاربها) قادم لا محال إذا لم ندرك قيمتك أيها الفرات وقيمه قطرات الماء الغالية التي أهدرنا ونهدرُ آلاف الأمتار المكعبة منها.
مشاريع طرق الري الحديث في تعثر دائم رغم المراسيم وإحداث الدوائر والإعلام والصحافة والطبل والزمر.
ولكن على أرض الواقع لا شيء.
ولا مهرب ولا ملجأ إلا إليك أيها الفرات.
أنقذنا من تخاذلنا.
أنت الصديق........................... أنت الرفيق.................أنت القريب
لمن نشكو ومن يستطيع أن يسمع الآهات في هذا العصر .
عصر السرعة و الهمبرغر و الجنز.
كل شيء تغير............
كل شيء تبدل............
وأنا القريب من أمي: أصبحت أحن إلى خبز أمي.......... وهمسه أمي ...........ولمسه أمي...........