news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
مقالات
من نحن؟! "عن الهوية... وأشياء أخرى"... بقلم : ظريف تركي المهنا

كأني بهم قد غادروا قريتهم الوادعة للتو.. وقد استقلوا آنذاك تلك الحافلات الصغيرة من المدينة المجاورة قاصدين العاصمة.


مرّ الوقت سريعاً، وها هم يعودون بعد عقدين من الزمن وقد امتطى كلٌ منهم صهوة سيارته الفارهة.. يمشون الهوينى وهم يتجاوزون خطواتك الوئيدة.. وقد يبادرونك بالسلام بإيماءة من رؤوسهم نحو الأعلى أو الأسفل بحسب ما تسمح به سُمنتهم البادية للعيان حتى إنك تشعر أن رقابهم قد اختفت.

 

ولكي يكتمل المشهد، لا ننسى زوجاتهم الجالسات إلى جانبهم وقد طفح الدهن من تضاريس أجسادهن.. وثمة أطفال في المقعد الخلفي يرتدون ثياباً فاخرة غالية الثمن. هؤلاء الشباب الذين غادروا القرية منذ برهة كما أحسبها، لم يكونوا يحملون سوى النزر اليسير من المال في جيوبهم، ولكن هل كان ذلك يا ترى كلّ ما يملأ عقولهم حتى أمسى غاية الوصول؟ فمنذ مساء السفر ذاك حتى هذه العودة المُترفة، سؤال يُلحُّ عليَّ ويدفعني لأتقاسمه معكم: ما الذي حدث، وبماذا امتلأت هذه الرؤوس؟

كي نلاقي بعضاً من إجابة عن تساؤلاتنا، ما رأيكم أن نتجول في بعض الحوارات والاهتمامات السائدة في هذه الأيام حيث سنجد وبدون كبير عناء شؤوناً تهيمن عليها بقوة مثل سعر متر العقارات في مناطق من ضواحي العاصمة أو أي مدينة كبرى، ولا ننسى الأحاديث المُتبادلة عن السيارات وفئاتها وتصنيفاتها.

 

 وهنا يجب أن أذكر أن ثمة سُلَّماً اجتماعياً قد نشأ يقيس إنجازات المرء ومكانته في الحياة بمقدار ما يملك من أمتار عقارية أو سيارات أو غيرها، كما يمكننا أن نتلمّس ماذا يعتمل في أعماق هذه الأدمغة عبر التفاعل الاجتماعي الذي يكتنفه الكثير من الفتور والسطحية؟ أهو هولٌ شاسع من حب الظهور؟ أدرك تماماً أنني لن أحيط بكل ما تختزنه هذه العقول من أفكار، فما ذكرته آنفاً ليس إلا قطرة من غيث؛ ولكن ما يؤرقني بحق وهو الدافع الحقيقي للتفاعل معكم هو السؤال الآتي: ما الهوية التي تنتجها مثل هذه الذهنيات لمجتمعات ناشئة ومُتحوّلة والتي قد تعتبر القرية السورية بما آلت إليه من تغيير نموذجاً لها؟

 

قبل أن أبحر في لجّة هواجسي، أرى من المفيد أن أوضح لكم ما أرمي إليه من مصطلح الهوية أو كيف أفهمه، فهو في أبسط تعاريفه

 "التكوين الثقافي والاجتماعي والخلقي والاقتصادي، وإن شئتم الروحي"

 

 الذي تكون فيه التكوينات الثقافية والاجتماعية والخلقية بنىً فوقية تعكس العلاقات السائدة في البنية التحتية أي الاقتصادية. ماذا يعني هذا الكلام الذي قد لا يستهويكم بشكله هذا؟ لكن لا بأس، فربما توضح بعض الأمثلة الصورة وتجلي الفكرة.

كانت القرية السورية حتى نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم مجتمعاً فلاحياً منتجاً تهيمن على نشاطه علاقات يفرضها واقع ممارسة الأعمال الزراعية حيث تُزرع الأرض شتاءً ويتم حصادها صيفاً.

 

وما يزال كثيرون من أهلها يذكرون كيف كانت القرية كخلية نحل، لا تهدأ ليل نهار؛ فكان آنذاك فرح العمل الممتزج بمفاهيم التكافل والتعاون المرتبط بعمق بالبساطة الخلاقة. وكان أهالي القرية منذ عقدين فلاحين حتى وهم على مقاعد الدراسة؛ كانت هويتهم ناصعة الوضوح والتي تشير بأن الحياة مسيرة كفاح وعمل وإنتاج ومعاناة وإن بدت هذه الكلمات الأخيرة مُزركشة، غير أنها تطرح مسألة على درجة كبيرة من الأهمية تتلخص بما يلي من أنتم الآن؟ وبماذا ستخبرون أبناءكم عن هويتكم؟ أأنتم صناعيون.. تجار..

 حرفيون.. متخصصون علميون ومبدعون؟ أم أنتم هؤلاء معاً، أم غير ذلك؟ إذا لم تستطيعوا الإجابة فأنتم ستستمرون بمنح الأجيال القادمة والتي نرى في سيمائها كثيراً من اللامبالاة مزيداً من الضياع، لأن هؤلاء قد وفّرتم لهم كل ما يحتاجون من وسائل المعيشة والرفاهية، وهم في ذات الوقت لا يشاهدون عرقاً يتفصّد من الجباه ولا سهر ليالٍ ولا بردَ صباح حتى انتفت من حياتهم أية معاناة، فالجهد الوحيد الذي يبذلونه هو في دراستهم، ولكن أهلهم يدفعون عنهم هذه المعاناة بشراء نجاحاتهم.

وها هي النتائج بدأت تظهر سريعاً في بنية هذه التشكيلات الاجتماعية، إذ نرى:

 

1.      انتفاءَ ثقافة العمل وبذل الجهد الفكري أو العضلي.

2.      شُحِّ الإيمان بالعقائد الروحية والفكرية والاجتماعية.

3.      تعلقٍ شديد بالمظاهر، والاستهلاك المحموم.

4.      شرعنة الطرق غير الشرعية في المكسب المادي وذلك بعدم نبذ الفاسد.

 

5.      حالة من الانحلال الاجتماعي وتفكك الأسر وانتشار الطلاق الذي بات أمراً عادياً بعد أن كان شاذاً بالنسبة إلى بعض قرانا.

6.      تفشّي ظواهر تعاطي المخدرات والمسكرات ولعب القمار.

7.      الاستقلالية المقيتة للعائلات الريفية وانحسار التواصل الاجتماعي الصادق.

8.      سيادة الروح الفردية وتضخّم الذات.

 

القائمة قد تطول وتكون عصية على الإحاطة، إذ يمكن لأي شخص أن يضيف أو يحذف منها بحسب زاوية رؤيته للقضية. ومن الجدير قوله أنّ كل ما ذكرناه في متن هذا المقال يخصّ مجتمعاً يمتلك قدراً ملائماً من الكفاية المعاشية؛ أما عن الهوية في المجتمعات الموغلة في الفقر، فلذلك بحث آخر ومسالك أكثر وعورة.

وأود قبل أن أغادر تزاحم هذه الأفكار والكلمات الإشارة إلى أن ما طرحت من مواضيع لها صفة الإشكالية وقد لا تخضع لمعايير ثابتة يمكن الركون إليها، كما أنها تحتمل طيفاً شاسعاً من الآراء ووجهات النظر، ولكن مهما يكن من أمر، أود أن أوجّه دعوة لكل من تلامس حواسه هذه الكلمات، وبالتالي تحرّك أحاسيسه في كل مزرعة أو قرية أو مدينة، أن يتساءل:

 

من نحن الآن؟ وكيف يمسي مجتمع شرع بفقد هويته؟

2011-03-11
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)