إنه ليس الإنسان المقطوع من شجرة وليس له أهل أو أقارب أو عائله أو أصدقاء
بل هو إنسان له كل هؤلاء مجتمعين، ولكن في معظم الأحيان ينشأ في بيئة متكاملة، فالأب شديد البخل والأم إما من نفس صنف الأب أو مغلوبة على أمرها، وأحد هؤلاء أرسل ابنه الذي لم يبلغ العاشرة من العمر مسافة كيلومترين في حر الشمس لكي يطلب من أحد أصدقائه أن يتصل به، حتى لا يقدم صديقه على فتح هاتفه المتحرك ويخسر هو قيمة المكالمة، والشخص نفسه يعطي ابنه يومياً درهماً واحداً في الصباح شرط أن يعيد الابن الدرهم إلى الأب بعد العودة من المدرسة .
وفي أحد الأيام أصيب الابن بالغيرة من أصدقائه الذين يتلذذون يومياً ب “الساندويتشات” بنصف درهم، ولكن الابن يقول لهم إنه يملك ثمن اثنتين بدلاً من واحدة إلا أنه غير جائع، وكانت رائحة الفلافل في ذلك اليوم تزكم أنفه أقوى من رائحة النشادر في أنف من يعاني الإغماء، وانتقلت الرائحة إلى أمعائه الخاوية وكانت كافية لكسر القاعدة والقفز فوق المسلمات وتجاوز الخطوط الحمراء وتناسي تحذير وتهديد ووعيد الأب بمعاقبته في حال عدم عودة الأمانة إلى صاحبها، واشترى الابن “ساندويتش” فلافل بنصف درهم وتلذذ بالوجبة الشهية والوليمة المفقودة التي اشتهاها منذ زمن، ولكن بعد عودة الابن من المدرسة إلى البيت سأل الأب ابنه عن الأمانة، فمد الابن يده المرتجفة إلى جيبه ليخرج منها نصف درهم ناوله لأبيه الذي كان في حال وأصبح في حال، وانقلب الأب إلى ما يشبه وحشاً كاسراً يهاجم أرنبا مسكيناً، حيث كان منظر نصف درهم في يده بعد تبديد نصفه على يد الابن المبذر كوقع الصاعقة أو خبر بفقدان عزيز، وأشبع الأب الابن ضرباً وهو يسأله في التحقيق عن مصير نصف الدهم الآخر، وكانت إجابة الابن وهو يبكي صريحة وواضحة لقد اشتهيت ال “ساندويتش” مثل باقي رفاقي في المدرسة واشتريت مثلهم .
ولكن هذا التصرف كانت عقوبته أكثر من مجرد الضرب، وكانت العقوبة الأكثر مرارة أن الأب توقف عن تسليم الأمانة للابن طيلة العام الدراسي لأنه خان الأمانة وتحول إلى مبذر، وهذا الانحراف مؤشر خطير ويمكن أن يدمر مستقبل الابن، لأن الأب ورث من والده التعامل مع الدرهم على أنه الحبيب وأغلى من الصديق والأخ والأخت والأم والأب والزوجة والابن والابنة، والدرهم مثل الشخص المجنون الذي يجب ألا يخرج من زنزانة جيبه متى دخل إليها مهما كانت الظروف ملحة، فمصروف البيت كان من دجاج المزرعة التي يعمل فيها وقبل موعد الإجازة يقوم بتجميع الدجاج المريض أو الذي فيه إعاقة، وإن لم يكن في الدجاج مريضاً ولا معاقاً يقوم بتكسير أرجل بضع دجاجات لكي يبرر أمام صاحب المزرعة أن هذه الدجاجات غير صالحة أن تبقى في المزرعة لأنها غير قادرة على السير، ولا يجب الاحتفاظ بها بين بقية الدجاج السليم في المزرعة، كما أنه كان يجمع الأعلاف المخلوطة بأوساخ الدجاج ليعيد بيعها بسعر رخيص، أما الدجاج المريض أو الذي تم تكسيره بيديه فيبيعه قبل الوصول إلى البيت لتحويله إلى سجين عزيز في زنزانة جيبه التي ليس فيها سوى طريق في اتجاه واحد للدخول فقط . فالدرهم الداخل إلى جيبه مفقود والخارج مولود ومثله من الصعب خروج مواليد من الدراهم داخل جيبه لأن جيبه عاقر