news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
مقالات
الطيب تيزيني واستكشاف أسئلة الفكر العربي الراهنة من سؤالَيْ الحرية والتقدم إلى سؤالَيْ التاريخ والوجد ... بقلم : هيفاء عجيب

يستهل الدكتور الطيب تيزيني كتابه (استكشاف أسئلة الفكر العربي الراهنة) بطرح مقولة للكاتب الفرنسي المعروف (أندريه جيد) يرى فيها أن إحدى الخصائص الجوهرية في العالم المسلم، وهو الإنساني الروح، تحمل من الأجوبة أكثر مما يثير من الأسئلة.


وإذ يناقش الدكتور تيزيني مقولة غياب الأسئلة عن الفكر العربي الراهن - مع تحفظه على رأي أندريه جيد - فإنه يقر بأن فئة المثقفين والأكاديميين العرب عاجزون حتى الآن عن أن يجترحوا دوراً إنهاضياً تنويرياً وتغييرياً, إذ إنهم يفتقدون الحرية والكرامة والكفاية المادية.

 

وقبل بحثه في أسئلة الهوية العربية وأسئلة الثقافة العربية، يشخِّص تيزيني الواقع العربي الراهن القائم على اقتصاد (خراجي مافياوي) وعلى مجتمعات ما قبل صناعية مفككة، وعلى منظومة قيمية أيديولوجية، تتأسس على تسليع كل الأكوان وتشييئها جنباً إلى جنب مع منظومات أيديولوجية دينية منها ما تحاول أن تمارس دوراً تنويرياً عصرياً، ومنها ما ترى مهمتها ماثلة في التأسيس لـ (يوم الآخرة). يأتي ذلك كله مع تفكك الفئات الوسطى وتصدعها.

 

وفي سعي الكاتب لاستكشاف أسئلة الفكر العربي الراهنة بدءاً من سؤالَيْ الحرية والتقدم إلى سؤالَيْ التاريخ والوجود، يشير إلى المراحل الثلاث الكبرى التي مرت بها الثقافة العربية الحديثة. فقد أفصحت المرحلة الأولى عن نفسها بصيغة الأسئلة التي انبثقت من الاستحقاقات التي أخذت إرهاصات النهضة العربية تطرحها على الرواد، بدءاً من أواخر القرن الثامن عشر. إذ جاء سؤالا الحرية والتقدم ومعهما سؤالا الإصلاح والتحديث، ثم عوامل الهزيمة التاريخية خصوصاً مع بداية السبعينيات من القرن المنصرم، وهي مرحلة الطفرة النفطية، مع بروز اتجاهات لابتلاع المجتمع السياسي العربي وبقايا مجتمع مدني، وظهور بديل عن ذلك هو (الدولة الأمنية) وتعاظم ظاهرة الاستبداد المركب، وهو المؤسس على الاستفراد بالسلطة والثروة والإعلام والحقيقة. وكان كل ذلك أشبه بالتأسيس لمنظومة ثقافية جديدة في الثقافة العربية، وهي التي أسست للمرحلة الثانية عبر أسئلة جديدة بصيغة ثنائيات حادة ومريرة: الحرية والاستبداد، الكرامة والاستباحة، الدولة الدستورية القانونية والدولة الأمنية الأخطبوطية.

 

ويستمر الأمر على هذا النحو إلى المرحلة التي دشنت فيها نشأة النظام العالمي الجديد، فارتفعت أسئلة جديدة غير مسبوقة في حياة الشعوب والأمم، وأخذ يبرز في مقدمتها السؤال الوجودي الذي وضع العرب بمثقفيهم على حد السيف: أما زال محتملاً أن نراهن على حلول بنيوية لحطامنا؟ أم أن الأمر دخل في نفق مظلم ومغلق؟ ومع الأحداث العظمى التي تجتاح العالم عولمياً وثقافياً يطرح أمام الجميع تساؤل ذو شحنة استفزازية مأسوية: هل من شأن ذلك جميعه أن يقود إلى استقالة العرب من التاريخ والإبداع الحضاري ؟ فهزيمة المشروع العربي النهضوي التنويري وصعود المشروع الصهيوني رافقه تصاعد قوى لثلاثة اتجاهات أيديولوجية ثقافية لها خصوصية السؤال التراثي: الأول اتجاه له صيغة سلفية ماضوية، والثاني أخذ منحى التمجيد للغرب، والثالث اتجاه يبحث عن الحقيقة في كلا الاتجاهين الأولين ويؤسس لنزعة (تلفيفية) موحداً ما لا يتوحد.

 

وبتصاعد حضور السؤال التراثي الإسلامي الأصولي كان الواقع يزداد اضطراباً ونكوصاً عن استحقاقات التقدم والتوحيد ومجاراة الآخر. ورغم محاولة الدفاع عن الثقافة بوصفها آخر حصون العرب، وقرار المثقفين رفع (لاءاتهم) ضد المشروع الإسرائيلي الأمريكي الذي قررت القيادات السياسية العربية الاندغام فيه، إلا أن هذا الحال لم يستمر، إذ أخذت الثقافة العولمية تسدد ضرباتها بقوة إلى الثقافة العربية عبر عملية غير مسبوقة في التاريخ لمحاصرتها من خلال عشرات الأقنية الفضائية (العولمية)، ومن خلال الإعلام المحلي العربي الذي فقد كل شيء إلا العار.

 

في محور آخر يبحث الكاتب في الحيثيات المركزية باتجاه الاستحقاق الاستراتيجي العولمي في حقل الهوية. ففي إطار ما يسمى الثقافوية وإعادة بنية الهويات، يرصد ما يوصف بالهوية فوق القومية باعتبارها معادلاً للسوق الكونية. وهي تتضمن إعادة بنية السوق بتحويلها إلى التماهي بالعالم، لتكون وظيفتها العظمى الماثلة في توحيد الكون بشراً وطبيعة تحت ظلها، ومن ثم تصنيف من يقف في وجه هذه الوظيفة في الطرف الثاني من الثنائية العولمية (إما الديمقراطية أو الإرهاب). وفيما يخص الهوية والاختراق الثقافي العربي نرى أن النظام العولمي الإمبريالي الجديد يطالب بتفكيك الهويات التاريخية المثمرة من نمط الثقافة والديمقراطية والعقلانية والحداثة والتاريخية، في سبيل التمكين لهوية واحدة وحيدة هي الهوية السوقية الكونية السلعية، وترويج مقولة: ماتت الثقافة ومات المثقف. هذا هو بعض ما يعمل ذلك النظام على تسويقه وإضفاء المصداقية المعرفية والأيديولوجية عليه.

 

وينبه إلى أن اختراقاً ثقافياً هائلاً يتم الآن من موقع النظام العولمي وملحقه الصهيوني للبنية الثقافية العربية، وهناك رهانات مفتوحة على هذا الصعيد، ولعل المدخل إلى الإجابة عن إمكان رهان عربي نهضوي وتنويري جديد يقف في وجه ذلك الاختراق يتمثل أولاً بأول في الديمقراطية بما تعنيه من حوار عقلاني تنويري عربي يؤسس لمنظومتي التعددية والفعل البنائي في المجتمع العربي.

 

ثم ينتهي الكاتب إلى أن الدخول في عملية التأسيس للمشروع العربي في النهضة والتنوير يجعله في المقام الاحتمالي الأول أمام الحسم الوجودي التالي وجهاً لوجه. وعليه - بلسان القوى العربية الحية - أن يجيب عنه عبر الثالوث الصارم القائم على الإرادة والوعي والفعل: إما أن نتصدى لهذا الاستحقاق الأعظم اليوم ونؤسس لخطواته الأولى الصائبة عموماً، وإما أن لا نستطيع إنجازه لا غداً ولا بعد غد.

 

إن المرور بعجالة على أفكار هذا الكتاب، تنتقص من قيمته، ولا بد للمهتم من قراءة متأنية واعية له، ليستطيع فهم الانعكاسات الواقعية لما حاول الكاتب الإشارة إليه من بوادر أزمات كانت تحيق بنا، وبتنا في قلبها الآن.

الكتاب من منشورات الدار السورية اللبنانية. 2011 ويقع في 172 صفحة.

2011-12-02
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)