news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
كذبة بيضاء ... بقلم : شريف رفعت

أمي تسأل: هل هناك أخبار من أخيك؟

لا داعي لأن تذكر أسمه فرغم أن لي أخان آخران لكن مفهوم أنها تقصد رفيق.


أرد عليها: لا جديد منذ الاسبوع الماضي ، حسنا أنك ذكرتيني، سأرسل له إيميل.

تقول: سلم لي عليه و اطلب منه أن يعتني بصحته، و يرتدي ملابس ثقيلة، فالشتاء عندهم قاسي للغاية.

 

يعذبني مثل هذا الحوار، لم أعتاد عليه رغم مرور ما يقرب من خمسة أعوام على وفاة رفيق، خمسة أعوام على الكذبة البيضاء التي اخترعتها و التي أعاني الآن من تبعاتها، و الحكاية أن أخي رفيق مات في حادثة سيارة، كان في طريقه للمطار للسفر للخارج، حيث كان من المفروض أن يقضي سنتين في بعثة تدريبية تبع عمله، كان أكثرنا مرحا و إقبالا على الحياة، كان أيضا أكثرنا قربا لأمي، و رغم أننا أربعة أخوة و أخت واحدة و المفروض أن أختي هي أقربنا للوالدة، إلا أن هذه المنزلة كانت قاصرة على رفيق، قد يكون ذلك بسبب أنه أصغر أبنائها و قد انجبته على كـِبـَر أو لأن والدي توفى و رفيق ما زال رضيعا، أو لأنه لم يوفق في زواجه فانفصل عن زوجته بعد فترة قصيرة و عاش في بيت العائلة مع أمي يرعاها و يؤنس وحدتها

 

 المهم أنه كان أقربنا للوالدة و كان ذلك مصدر دعابات و تعليقات ساخرة في العائلة، رفيق كان أيضا اعز إخوتي لي، أكبره بحوالي عشرين عاما و بالتالي كنت له بعد وفاة والدنا بمثابة الأب، زاد من حبي له أنه كان متفوقا في دراسته و لم يسبب مشاكل أثناء فترة مراهقته، و عندما بدأ العمل كان مميزا في أدائه الوظيفي و قد يكون ذلك هو السبب في اختيار رؤسائه له ليذهب في بعثة الخارج التي لم يشأ القدر له أن يبدأها حيث وقعت الحادثة التي أدت بحياته و هو في طريقه للمطار.

 

@ @ @ @ @

 

أنا صاحب فكرة إخفاء وفاة رفيق عن أمي، كانت يومها على مشارف الثمانين ، نحيلة الجسد و ضعيفة رغم أنه لم يكن هناك امراض معينة تعاني منها، إجتمع أفراد العائلة و تشاورنا في الأمر، كان هناك رأي أن نصارحها بالحقيقة لأنها امرأة قوية شديدة الإيمان، و ضُرب وقتها مثلا بصلابتها و قوتها عند وفاة أبينا و كيف ربتنا و عانت و صمدت رغم صعوبة الظروف، لكن ذلك كان من عقود مضت و حالتها وقتها كانت مختلفة، الفكرة التي سيطرت علي وقتها كانت تجنب تعرضها لصدمة في أعز شيء لديها و هي في سنوات عمرها الأخيرة، لذلك كانت الكذبة البيضاء أيامها من وجهة نظري بغرض رحمتها و سكينتها.

 

لم يكن الموضوع سهلا فقد حرصنا على ابلاغ أفراد الأسرة و الأقارب و الأصدقاء و المعارف بهذا الأمر حتى يشترك الجميع في هذه الكذبة البيضاء الرحيمة فلا يخطأ احدهم و يتفوه بالحقيقة، بعد مرور سنتين و هو الميعاد المفروض للبعثة اضطررت إلى تأليف سلسلة من الأكاذيب الفرعية لدعم الكذبة الرئيسية، فأخبرت والدتي أن البعثة قد طالت مدتها ثم  أن رفيق يدرس للحصول على درجة الدكتوراه من البلد المبعوث فيها، كنت أيضا من وقت لآخر آتي ببعض الأخبار المصطنعة لإسعادها، كأن أقول لها أن أحد أصدقاء رفيق قد زاره في بلده و أن رفيق أرسل لها السلام معه، أو أنه اجتاز أحد اختبارات الدكتوراه بنجاح و يطلب منها الدعاء له.  

 

أحيانا كنت أشعر بالزهو لمهارتي في تأليف هذه الحكاوي و أحيانا أخرى كنت ألوم نفسي و ألوم الظروف التي اضطرتني للكذب و لكن عزائي أن الهدف كان نبيلا، و الحقيقة أن أمي لم تسبب لي مشاكل كبيرة بخصوص هذه الكذبة، فقد قبلت ما أقول لها بتصديق و استسلام غريبين.

 

@ @ @ @ @

 

مرت السنون، خمسة سنوات ضعفت خلالها صحة أمي و أصابها العديد من الأمراض، كنت دائم الدعاء لها بطول العمر رغم أن ذلك يستدعي استمرار الكذبة، في الأيام الأخيرة تدهورت صحتها بطريقة ملحوظة، رقـَدَتْ في فراشها لعدة أيام، استدعينا لها أكثر من طبيب، كان هناك شعور عام أن النهاية قد اقتربت ، حرِصـْت على البقاء بجوارها أغلب الوقت، عندما حانت ساعة الرحيل و هي راقدة في فراشها في هدوء و سكينة، أخذت أرنو لها و أتخيل مشوار حياتها، هذه المرأة صغيرة الجسد كبيرة الهمة، واهنة الصحة قوية العزيمة، هل آن لروحها أن تستريح؟ و هل آن لي أن أستريح من ترداد كذبتي البيضاء؟

 

فتحت عيناها ببطء ، بدت عيناها أكبر من المعتاد، و بهما نظرة ساكنة مطمئنة، نظرت لي و قالت: أخوك رفيق.

ابتسمت لها برقة و أنا على استعداد لأن أكذب لما يبدو آخر مرة، استمرت بصوت ضعيف بطيء و لكنه واضح: أخوك رفيق ، أنا أعرف الحقيقة،

لم أفهم عبارتها لأول وهلة، استطردت: أعرف الحقيقة من أول يوم، رحمه الله.

ثم أغلقت عينيها.

2012-01-02
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد