لا أحد مطلقاً، على مستوى الأفراد أو المجتمعات، يقع خارج الصيرورة التاريخية، وبالتالي فإن البنى التحتية والتراكمات الكمية سوف تفعل فعلها عاجلاً أو آجلاً، مؤدية إلى تغييرات كيفية على كل الصعد، شاء من شاء، وأبى من أبى.
فالحركة دائمة، والسكون نسبي، وواهم كل من يعتقد بدوام الحال من خلال قدرته على التأثير في الشكل، أو حتى في صناعة الشكل، لأن الأهم هو الجوهر، الذي يتغير بنيوياً، حتى ولو دام الركود أو السكون فترة من الزمن طالت أو قصرت. إن العملية التاريخية عبر تاريخ الاجتماع البشري خاضعة لقوانين ثابتة بشكل كبير، وليست نابعة من أي شكل من أشكال الإرادوية أو الرغبوية الفردية الفجة، بقدر ما هي نتيجة أسباب اقتصادية واجتماعية دائمة الحركة والتطور. ونعود إلى سؤالنا المعنون:
أين المخرج؟ أزعم أن المخرج يكمن بكل بساطة في معالجة الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمة العميقة والمركبة في سورية، وليس في بحث النتائج والدخول في تفاصيل التوصيف، على أهمية ذلك، بوصفها باباً إلى متاهات وسجالات سياسية شكلية، لن تؤدي إلا إلى المزيد من الضحايا والخسائر في صفوف أبناء هذا الشعب وهذا الوطن العزيز. إن النظر في الأسباب ومعالجتها يتطلب قبل كل شيء شجاعة وروحاً وطنية عالية تسمو على جميع الخلافات الأخرى، لأننا جميعاً لا نريد أن نصل بالنتيجة إلى مرحلة قد لا نجد ما نختلف عليه، أعني إلى ضياع الوطن ومطالب جماهير الشعب المحقة. تعيدنا الضغوط والمؤامرات التي تحاك ضد الشعب السوري اليوم إلى مرحلة التحرر من الاستعمار، وإذا جرى استيعاب الدرس التاريخي، فستتغير الأوليات لدى الكثيرين.
الأزمة في سورية أزمة اقتصادية واجتماعية، وبالتالي سياسية، لذلك أكرر أن علينا جميعاً أن نغير ترتيب أولياتنا، بدءاً من صيغة الحكم في البلاد وما أفرزته من فساد وإقصاء وتهميش وفقر، وانتهاءً بمعارضة انساقت خلف إغواءات شعارات الشارع، وما زالت تتخبط وتبحث عن (مشروعها المستقبلي) لسورية. إن العمل السياسي في سورية قد أصيب بالترهل، حتى على مستوى أحزابنا، التي فقدت القدرة على تأسيس أدواتها النضالية الجديدة، وأصبحت تترنح تحت ضغط مطالب الجماهير وحراكها من ناحية، وعدم قدرتها على طرح مشاريع تغييرية أو حتى إصلاحية للانتقال إلى دولة مدنية تعددية من ناحية أخرى. إذا لم نقف بجرأة وحرص على المسببات الداخلية الحقيقية، التي أنتجت الأزمة الحالية، وساهمت في استمرارها، فلن نستطيع أن نقف في وجه المؤامرات التي تستهدف وطننا تاريخياً. ولن نستطيع الخروج من هذه الأزمة سالمين.
الوضع خطير للغاية، وكل الاحتمالات مفتوحة وجدية، وعلينا أن نقرأ هذا الواقع بعين بصيرة وعقل منفتح وبمسؤولية وطنية، فالوطن أهم وأكبر من الجميع. والأكثر فعالية في الوقوف على الأسباب الموضوعية ومعالجتها هو النظام، لذلك يقع على عاتقه العبء الأكبر من المسؤولية، وذلك بالانفتاح على جميع مكونات المجتمع السوري الوطني، وفتح المجال أمامهم لإشراكهم في صناعة القرار الوطني، كي يتحمل الجميع مسؤولية ذلك القرار. وأولى اللبنات في ذلك هي:
الوقف الفوري للأساليب الأمنية في مواجهة التظاهرات السلمية، وقصرها على التعامل مع المجموعات المسلحة. الاستقواء بالشعب السوري فقط في مواجهة الضغوط، وإشراكه في عملية المواجهة من خلال تلبية مطالبه، والإفراج عن أبنائه من السجون، واستغلال هذه الطاقات في بناء الوطن وتعزيز سيادته.
اتخاذ القرارات التي تثبت جدية الحكومة في العملية الإصلاحية في الوقت المناسب، وتطبيقها على أرض الواقع. رتق هذا الشرخ الذي أصاب وحدتنا الوطنية من خلال وقف كل حملات التخوين، وهي مسؤولية جميع القوى الوطنية الشريفة في سورية. كل هذا وسواه من الإجراءات يمكن لها أن تفتح آفاقاً جديدة قد تنهي الأزمة السورية وتصل بها إلى شاطئ الأمان، ودون ذلك نكون كمن يدفع بالوطن نحو الهاوية. نختم بالقول إنه حين يكون الحل داخلياً تكون إمكانية نجاحه أكبر وأضمن، وعندما لا نستطيع القيام بهذه المهمة تكثر الأطراف التي تستغل المطالب المحقة، وينسد الأفق، وتتحول الأنظار باتجاه الخارج، وهذا هو الخطر الأكبر على الوطن، لأن الخارج الإمبريالي لا يدافع عن أحد، ولا يحمي سوى مصالحه، التي هي بالضرورة نقيض مصالح الشغيلة والشعوب عموماً