بعد ليلة طويلة لم ينم فيها إلا قليلا وبعد أن قض مضجعه بعض الأحلام المزعجة استيقظ أبو ياسر كعادته وتوضأ وصلى الفجر وراح يقرأ القرآن حتى طلوع الضوء .
ثم أعد لنفسه كأساً من الزهورات الشامية واحتساه ساخنا في أرض الدار . ثم قام ليحلق ذقنه فهو لم يحلق منذ أيام فرأى الشيب وقد غزا رأسه ولحيته بأكملها . و رأى بأن لونه قد أصفر .
فتذكر قول الشافعي :
خبت نار نفسي باشتعال مفارقي وأظلم ليلي إذ أضاء نـهـارها
أيا بومة قد عششت فوق هامتي على الرغم مني حين طار غرابها
رأيتي خراب العمر مني فزرتني ومأواك مـن كل الـديار خرابها
إذا أبيض شعر المرء وأصفر لونه تـنغـص مـن أيـامه مسـتطابها
وبعد أن مارس طقوسه المعتادة وتجول في فناء بيته وحلق ذقنه وتناول الفطور وشرب الشاي خرج من بيته في الصباح الباكر كعادته كل يوم وبدأ يتجول في الحي يلقي التحية على من يصادفه من أبناء الحي ومن المارة , كان يتأمل كل حركة تجري . وكل مار مسرع . أو يمشي على هونه .
سمع صوت جذب انتباهه . التفت فإذا به عصفور مكسور الجناح يتخبط على الأرض برعب شديد . كلما حاول الطيران كان الألم يزداد ومع ألمه يضعف أكثر . لم يكن يعلم كيف يساعد العصفور المسكين فكلما حاول إمساكه فر العصفور برعب شديد . لحظات ولمح قطاً يتربص بالعصفور وهم ليبعد القط فركض نحو العصفور وكان القط أسرع منه فالتقفه بلقمة واحدة .
هذا المنظر حرك عنده مشاعر الشيخوخة وقال في نفسه : لقد كبرت يا أبو ياسر, خطواتك صارت بطيئة وردات فعلك أبطأ . وبينما هو متكدر يفكر بما حدث رأى ولداً يلعب بآلة صيد يدوية الصنع ( نقيفة ) . فعلم أن هذا الولد هو من ضرب العصفور . فصرخ في وجهه . فما كان من الولد إلا أن وجه سلاحه بوجه هذا المزعج . فخاف أبو ياسر وغطى وجهه بذراعيه خوفا من ضربة الحجر في ( نقيفة ) الغلام , وعندما فتح عينيه وجد الغلام يركض فاراً وهو يسمعه غليظ الكلام . قال أبو ياسر . جيل أخر زمن .
مشى قليلا وهو يحوقل ويتعوذ مما رأى وسمع . أحس بالتعب فجأة فجلس على درج منزل عربي وما إن وضع قفاه على الأرض حتى نزل عليه دلو ماء بارد أصاب عظامه بالقشعريرة . نظر للأعلى فوجد جارته تنظف سطح الدار ولما علمت ما فعلت قالت وهي تضحك . أبو ياسر . نعيماً لما لم تقل لي أنك تجلس على باب الدار والله ما كنت رميت الماء عليك .فقال لها : الله يسامحك كان يجب أن تنظري قبلاً . فقالت : لا أستطيع النظر أخوك أبو نظمي لا يهون عليه أن أنظر من فوق السطح . يلا تعيش وتأكل غيرها . قام منزعجاً جداً . وقال ما هذا اليوم النحس , سأعود إلى بيتي لعل القادم يكون أسوء .
عاد ودخل إلى بيته وبدل ملابسه وجلس في أرض الدار يتأمل العصافير والشجرة الوحيدة في داره . قال : الله يرحم أيام زمان كان الشارع أهدأ وآمن من الآن . ولم نكن نستطيع أن نؤذي نملة وأبن ( .........) يصطاد عصافير (بالنقيفة ) وهددني أيضاً . وأم نظمي ترمي زبالتها على المارة بدون خجل أو شعور بالذنب وكأنها لم تفعل شيئاً . ما بال هذه الأيام أهي التي تغيرت أم نحن . حتى القطط التي كنا نطعمها بأيدينا صارت وحوش مفترسة تصطاد في حينا . الله يا دنيا .
نعيب زماننا والعيب فينا وما العيب إلا أن نعيب ذا الزمان
ونام أبو ياسر على مقعده وهو يفكر بالأمس واليوم متمنياً أن يصحو فيعود به الزمان إلى أيام الصفاء والمحبة الصادقة . ولما استيقظ وجد نفسه لازال في فراشه فحمد الله عز وجل أن كل ما حدث معه كان حلما يرجو أن لا يتحول إلى حقيقة .