هل يتوجب على الدراما أن تبتعد عن تصوير أمراض المجتمع وأخطائه وما فيه من فواحش؟! أليست هذه الأمراض والأخطاء موجودة فعلاً في مجتمعاتنا؟ هل نغفل عنها ونتجاهلها فنكون كمن يدفن رأسه في الرمال؟! ألا يمكن للدراما أن تعالج هذه الأمراض والأدواء وتحدّ من انتشارها فتقدم للمجتمع خدمة جليلة وتكون محفِّزاً لنهضة نسعى إليها ونحلم بها؟!
أسئلة تتكرر على الساحة الإعلامية وفي كل مكان تطرح فيه قضية الدراما السورية ولقد أردت من خلال هذه الوقفة تقديم هذه الرؤية التي تمثل شريحة من الفكر مهما كان لها من المنتقدين والمعترضين إلا أنها موجودة وليس هذا فحسب بل مترسخة في بنيان هذه الأمة كرسوخ الشمس في كبد السماء.
بسم الله أبدأ إن أحداً لا ينكر ما للدراما من دور فعال في إصلاح النفس وتهذيبها وتوعية المجتمع وارتقائه، وذلك لأن الدراما إنما هي تصوير قصصي ممتع وشائق، وخاصة إذا كانت تلامس الواقع وتجسده بصدق وصراحة، فالأسلوب القصصي والمسرحي هو أحد أساليب التربية الفعالة، ولكن شأنه شأن أي علم وأية أداة نتائجه مرهونة بكيفية استخدامه.
ولقد حفل كتاب الله تعالى بقصص وحكايا إيجابية وسلبية كان الهدف منها تربية النفس وتقديم نماذج عديدة للاقتداء بها أو الاعتبار من أخطائها,ومن القصص السلبية مثلاً قصص الأمم البائدة التي عصت ربها وابتعدت عن نهجه، فقد صور لنا الله تعالى ما كانت عليه هذه الأمم من الأخلاق الفاسدة والأمراض الاجتماعية من خلال مشاهد متوالية وصور بيانية مختلفة.
ولكن السؤال الهام هنا: بأي قالب تم تقديم هذه القصص وتلك المشاهد؟ هل كان العرضمن وجهة نظر أولئك العاصين فكانت الصور تبين مشاعر لذتهم وشبقهم ورغبتهم التي كانت تذهب بعقولهم؟! هل كانت المشاهد تفصل في تصوير لواعج نفس العاصي ونشوته عند ارتكاب المعصية أم كانت القصص تُعرض بقالبها المنفر الذي يصور بشاعة المعصية وعاقبة العاصين والمذنبين في الدنياقبل الآخرة؟!!
وخير مثال على ذلك قصة امرأة العزيز عندما راودت فتاها يوسف عن نفسه كيف عبر عنها السياق القرآني؟ هل كان في كلام الله كلمات مثيرة أو وصف مثير؟ وقصة قوم لوط ألم يتعرض لها البيان الإلهي بكم هائلمن مشاعر التنفير والاشمئزاز مستخدماً أسلوب التلميح لفعلهم القبيح دون عرض تفاصيل شبقهم وانحرافهم ولذتهم واستمتاعهم...
أما في دراما الأفلام والمسلسلات هذه الأيام فكيف هو حالها؟
إنها وبكل أسف ليست أكثر من نقل للفاحشة التي نسمع عنها ونريد أن تتعافى مجتمعاتنا منها إلى بيوتنا وتمثيلها بكل أبعادها أمام عيوننا جميعاً (كباراًوصغاراً)... هذا فيما يتعلق بتجسيد الفواحش على أنها أمراض أخلاقية واجتماعية، فما بالنا بالمستوى الأخلاقي المتدني الذي تؤسسه الدراما في المجتمع عندما تقدم السلوكيات العادية وتشير إلى أنها سلوكيات راقية على نحو لا يقل فحشاً ولا رذيلة من الأمراض الأخلاقية التي تدعي أنها تعالجها ليكون حالها كمن يعالج الفحش بالفحش والرذيلة بالرذيلة!!!
وعلى نحو صار مطلبنا بأن تعالج الدراما حال مجتمعاتنا وأمراضها الأخلاقية كالمستجير من الرمضاء بالنار... وربما يقول قائل الآن إنّ تناولالفواحش في الدراما ولو في سياق التحذير أمر غير محمود يجب الابتعاد عنه، لأن استخدام الفعل مسبوقاً بأداة نفي أسلوب خاطئ في التربية،فأداة النفي سرعان ما تزول من النفس ولا يبقى فيها إلا الفعل السلبيفقط، ومثال على ذلك أننا عندما ندعو إلى الصدق ليس علينا أن نقولللسامع: لا تكذب لأن ( لا ) النافية لن تثبت في نفس سامعها وسيترسخلديه الفعل (تكذب) فقط
ولكنني أقول: لا بالتأكيد إن لكل فعل منفي أومثبت دوره اللغوي الذي لا ينوب عنه غيره لأن الفعل الذميم المسبوق بأداة نفي عندما يُذكر يولِّد في النفس شعور الاشمئزاز الذي يكون في كثير من الأحيان حافزاً مهماً للابتعاد عنه وعدم اقترابه، وهنا يكمن شرط تقديم المواضيع الجريئة وهو المحافظة على مضمون الفعل الذميم وما يوحيه من الاشمئزاز بل تفعيل هذا الاشمئزاز والتركيز على التنفير منه وإظهار عاقبته...
وبنظرة سريعة في كتاب الله تعالى نرى أنه سبحانه أمرنا في كثير من المواضع بالفعل الإيجابي كغض البصر وتحصين الفروج، كما نهانا عن الفعل الذميم، فطلب منا ألا نقرب الزنا فقال: "وَلَاتَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
"وقال أيضاً: "وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
" فالله تعالى استخدم الفعل المذموم مسبوقاً بأداة نفي ولكنه قدم لنا الفعل محافظاً على ما يتضمنه من معاني الاشمئزاز والعاقبة الوخيمة بل مركزاً عليها بقوله: (فاحشة وساء سبيلاً)
وباستخدامه المفردات: (أثاماً، العذاب، مهاناً) بكل هذا كان التركيز على ما في الفعل من قبح وعاقبة وخيمة، وفي الوقت نفسه فالله تعالى لم يتعرض في سياق النهي إلى ما في هذا الفعل من لذة ونشوة وسعادة كما هوحال الدراما الجريئة اليوم .
ربما يقول قائل الآن: وهل نحن نعيش وحدنا في هذه الأرض وهل جميع القائمون على العمل الإعلامي ملزمون بالتقيد بالمنهج الإلهي في الأمر والتكليف أليس من الممكن ألا يكونواأصلاً غير مسلمين؟!
وهنا أقول: إن الفواحش والرذيلة لا دين لها فكل من له فطرة سليمة يستقبحها ويكرهها ويرفضها لمجتمعه وأهل بيته فما الفرق بين قيام الفاحشة في المجتمع وانتشارها وبين تمثيلها وتقديمها بكل أبعادها من لباس وعناق وفحش ومشاعر مثيرةوغيرها...!!
أليست ممارسة جديدة للفواحش ولكن بطريقة أخرى!! ثم إننا نلهث دائماً وراء أساليب التربية القادمة من هنا وهناك فلماذا لا نأخذ بأصول التربية التي وضعها خالق النفس البشرية وموجدها!!
وهل الدراما الغربية الموجهة للمجتمعات الغربية بقيمها ومبادئ حياتها تناسبنا لنحذوحذوها!!
ربما تكون المعادلة صعبة بلا شك ولكنها ممكنة أن نوجد دراما عربية سورية هادفة تعالج أمراض المجتمع وأخطاءه بأسلوب راق غيرمبتذل، معتمدة أسلوب التلميح لا التصريح، مقدمة هذه الأخطاء بما فيهامن قبح واستنكار، مسلطة الضوء على عاقبتها الوخيمة ونتائجها السيئة،معززة في المقابل الصور الإيجابية المشرقة مشجعة عليها مبيِّنة نتائجها الإيجابية...
وأقول في الختام لمن يردد ويكرر أن الابتعاد عن الجرأة والصراحة في تقديم المشاكل الأخلاقية في الدراما السورية يجعلنا كمنيدفن رأسه في الرمال أقول: بما أن الدراما السورية أصبحت تحمل على عاتقها مهمة تحديد مكان رأس المواطن السوري فإن دفن الرأس في الرمال أفضل ألف مرة من القاع العميق الذي تحفره الدراما لأمتنا وأجيالنا هذه الأيام...!!