من ذكرياتنا في المدينة الجامعية في ثمانينات القرن الماضي أن انقطعت المتة و دخان الحمرة الطويلة، و كانتا في تلك الفترة مادتين أساسيتين في حياتنا الطلابية .
كانت الامتحانات الجامعية في عزها و التنافس على أشده بين الدريسة و جماعة المعدلات العالية ، بالطبع أنا لم أكن منهم و الحمد لله ، لكني كنت من المدمنين على المتة و دخان الحمراء الطويلة.
خلال الأزمة و بسبب عزلة المكان و قلة ما بين أيدينا من مصروف، كان لا بد من الإحتيال على الواقع بالتقنين قدر المستطاع ، و إدخال بدائل لتحل محل المواد المفقودة كالشاي والزوفا، أو الدخان من أنواع أخرى حمراء قصيرة و بالميرا و عربي لف .
كما بدأ كل منا يتدبر بما لديه من مخزون استراتيجي ريثما تنفرج الأزمة ...
أحد زملائنا من المدمنين على الصنفين أعلن (انقطاعه) في وقت مبكر من بداية الأزمة ، و بعد فترة صوم قصيرة قضاها في خلافات مستمرة مع زملائه بسبب الحالة العصبية و النذق التي انتابته على غير عادة، فهو من الظرفاء ، بدأ يعلن أنه لم يعد يستطيع التركيز في الدراسة ، و أنه يحمّل جميع من حوله مسؤولية حملانه لمواد ذلك الفصل ، و بالتالي فشله الدراسي، و دمار مستقبله ، و خربان بيت عائلته التي تعتبره المنقذ الأخير لها من الفقر و الحاجة و التخلف
و بدأ حملة جمع تبرعات تهدف إلى إخراجه من حالة الفاقة المتية التي يعانيها، شارحا للمتبرعين ببضع غرامات من المتة أو بعض السجائر المنوعة أهمية دورهم في تعديل مزاجه ومنعه من الإنحراف الأخلاقي و القيمي الذي قد يصل إليه بسبب حالة عدم التركيز و العصبية التي أصبح تأتيه في المواعيد التي كان في العادة يتناول فيها المتة، أو يشعل فيها سيجارته و ينفث دخانها باتجاه سقف الغرفة، ذلك السقف الذي عاد إلى لونه الأبيض بسبب الاقلاع الإجباري عن التدخين.
وفي حال امتنع أحد الزملاء عن المساهمة ببضع حبيبات من المتة أو على الأقل حشوة سيجارة لف فإن صاحبنا سينشر عرضه في كريدورات و ممرات و غرف المدينة الجامعية .
لكن الحالة استمرت لفترة لم تكن في الحسبان فتوقف الأصحاب عن تمويل الزميل الذي تحول إلى مبتز جشع .
بعدها بدأ زميلنا رحلة استجداء وصل فيها إلى تقديم عروض مغرية كمسح و تنظيف الغرفة مقابل ضرب متة ، وجلي عدة الغداء ( طنجرة و صحنين وعدة ملاعق) مقابل سيجارة حمراء طويلة ، بعد ذلك و بسبب قلة العروض و مضاربة مقطوعين آخرين، تفاقم الوضع فأصبحت العروض السابقة تتم مقابل ضرب متة نصف قاطع أو سيجارة بلا فلتر .
و في نفس الوقت بدأ مسلسل العتاب بين الأصدقاء و الأصحاب الذين ثبت أنهم ليسوا للسيف و لا للضيف أيام المحن ، و من بين الاتهامات ما تناولت البعض الذين قاموا بتعليم زملائهم الأغرار شرب المتة و التدخين بحجة المحبة و المشاركة و الاندماج ، و هذه السياسة في الحقيقة لم يطبقها البعض للأسباب سابقة الذكر، فاعترافاتهم الموثقة أثبتت أن السبب وراء ذلك كان خطيرا ، و تمثل باستغلال هؤلاء المبتدئين من أجل تأمين مصادر تمويل إضافية و مخازين احتياط يمكن الركون إليها بين الحين و الآخر ( بالمونة ) ، إلا أن البعض رأى فيما بعد بأن هذه السياسة كانت سببا في ارتفاع سعر المادتين بسبب كثرة الطلب عليهما .
و من العبارات التي كانت ترافق عمليات الشحادة المبرمجة، بعد رد الطرف الآخر بالإعتذار لعدم توفر المطلوب يجيب الزميل المتسول ( و لو بيت السبع ما بيخلى) .
في أحد المرات قصدني زميلنا المقطوع و حالته يرثى لها ، و بثني عتبه على زملاءه الذين خذلوه و لم يمنحوه حتى ضربا (ماصلا ) ، و سمى أحدهم و هو من أعز أصدقائه قائلا : و لو....تصور أنه أطفئ السيجارة و فيها رمق أخير و حرمني منها ، ثم أنكر أن لديه متة ، فقلت له جد لأخيك عذرا فربما حقيقة ليس لديه ... فأجاب بانفعال : ليس لديه !! أنا من يعرفه جيدا..... يا صديقي هذا ( فلان) عظامه متة.....!!!.