بسم الله الرحمن الرحيم
جلس بالقرب من والده الذي توفي منذ لحظات . وهو يتأمل عيناه وهما مفتوحتان وقد جمد البؤبؤ في اتجاه واحد . وكان فم والده مفتوحا معلنا عن إخراج أخر نفس له في هذه الحياة . وصار يفكر .
هل خلقنا لنموت ؟ .
ما هذا العذاب .؟ .
يا الله فراق الأحبة صعب جداً ! .
كيف يموت الإنسان ؟
قبل قليل كان والدي حياً يتنفس وعيناه تنظران في كل اتجاه . وأنا لا أصدق أنه ميت . وكأنه نائم . صار يهز الجسد وما من مجيب . خاطب والده وكان يراقب أي إشارة منه . وما من مجيب . لم يصدق أن والده لم يعد هنا . فهاهو رسمه أمامه وجسده لازال دافئاً . كيف يعقل هذا ؟ .
كانت أصوات البكاء والنحيب مزعجة جداً . ولكنه كان يقدر موقف إخوته البنات وفقدهن لوالدهن . لم يستطع البكاء . بل كان يتلهى بأشياء أخرى وكانت الأفكار تسري في رأسه بسرعة الضوء أو أكبر منها . وكان صوت القرآن الكريم على مسامعه وهو يقول في نفسه : عندما كنا نسمع صوت القرآن كنا نعلم أنه هناك ميت في البيت الذي يأتي منه الصوت ....
وهاهو القرآن زارنا في بيتنا . صار يتفكر فيما يسمع . وكان جسده هنا ولكن روحه لم تكن هنا . وكان يتقبل مجاملة الناس له ومواساتهم له . فيبتسم ابتسامة خفية أحيانا . وأحيانا أخرى يعبر عن حزنه بعلامات الأسى على وجهه . كان يمثل الحزن لأنه لم يكن حزينا بمعنى حزن الخسارة . بل كان مسروراً أن والده مات وهو نظيف اليد ومقيم لصلواته ولم يكن لأحد عنده مظلمة . ولكنه كان يخشى البوح بما يفكر به وأن يواسي أخواته البنات بقوله أفرحن لأبوكن بدل البكاء عليه .... فسياط المجتمع لن ترحمه حينها .
حُضر الجثمان وغُسل وحُنط . ثم كفنوه وحُمل على الأكتاف ليصار به إلى مثواه الأخير . فينام النومة الأبدية حتى يبعث الله الأجساد من التراب .
ولم يبكي أيضاً . رغم أن الجميع بكوا على حال هذا الوالد الذي سيدفن تحت التراب بعد قليل . ذهبوا به إلى المسجد وكان هناك أناس كثيرون منهم من يعرفه ومنهم من لا يعرفه صلى الناس على الميت وذهبوا به إلى المقبرة وهناك وصلوا إلى مكان دفن الميت . بجوار والدته المرحومة . التي توفيت منذ أكثر من عشرون عام تقريباً . ولما أرادوا إنزاله في قبره قال أحد الحضور : يجب أن ينزله في قبره أحد أولاده . فدفعه الناس وقدموه ونزل في القبر ...
وكان عميقاً بحيث أنه وقف بطوله في القبر وكان يمد ساعديه ليتلقى الجثمان من فوهة القبر . أنزل والده إلى هناك واتبع إرشادات حفار القبور في توجيه الجسد وفك بعض أربطته والكشف عن وجهه وهنا حصلت الطامة الكبرى . عندما أيقن الولد أنه الفراق الذي لا لقاء بعده حتى يشاء الله . وأنه الوداع الأخير . وعندما رأى عمق القبر وشعر بالضيق وهو الذي سيخرج بعد قليل . وعندما تخيل بطن والده تنتفخ حتى تنفجر . وكيف ستأكله القوارض . والديدان . والحشرات . هنا انفجر بالبكاء على ما كان قد سلف في حياته وعلى والده و على هذه النهاية المؤسفة .
أخرجه الناس وقد تعجبوا لحاله فهو لم يبكي منذ حصول الوفاة . و الآن تذكر البكاء . خرج الولد وكم ألمه ردم الحفرة بيد حفار القبور وولديه يساعدانه . وكان يستعجل كأنه يكره المتوفى ويريد التخلص منه بسرعة . بعد عدة أيام وبعد أن انتهت مراسم العزاء وعاد بعض الهدوء إلى البيت ...
جلس هو وأخواته وقال لهن : أنتن تعرفن هموم الحياة ومشقتها وكلكن عندكن أزواج ومسؤوليات ووالدنا رحمه الله ترك هذا البيت فماذا تنظرون . ودار سجال حاد بين الإخوة أدى في النهاية إلى أن تقع العداوة بينهم . وقاطع بعضهم بعضاً . وبيع البيت . وصار كل واحد منهم يحكي لأبنائه عن الظلم الذي لحق به جراء التقسيم الغير عادل لتركة والده المرحوم . وهكذا دارت الأيام إلى أن أتى اليوم الذي توفى فيه الابن ولم تحضر أخواته مراسم الدفن لأنهن يشعرن بالظلم نتيجة تقسيمه لتركة والده المرحوم بغير عدالة . وكان نصيب الأحفاد من الأحقاد كنصيب الأبناء من الآباء وتمضي الأيام .
محمد عصام الحلواني دمشق في 22/3/2012 م الساعة التاسعة مساءً .