تسمع أصوات تنفجر من هنا و هناك, ويبدو لك من الوهلة الأولى أن أمر جلل قد حدث, فإذا تحققت و تجلا لك الأمر , وجدته نقاش متطاير بين أثنين إما صادر من بيت أو من سوق أومن غرفة اجتماعات , قد يحدث هذا في أي مكان وزمان , فهو نمط واحد ومتشابه. فلماذا أصبحت النفوس أكثر شحنا وأقل سماحةً , هل هي السمة العامة بسبب طبيعة الحياة المتسارعة, أَم هو لقلة الوعي لمعنى ثقافة الحوار.
الحوار هو من الأمور الضرورية للإنسان لأنه اجتماعي
الطبع , فلذلك هو يحتاج إلى تواصل مع أبناء جنسه عن طريق الكلام أو الحوار, وقد قال
الشاعر في ذلك عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوّت إنسان فكدت أطير.
والأصل في الحوار او النقاش هو الوصول إلى أفضل الحلول من خلال الخبرات و المعرفة
العلمية والعملية المتراكمة . وأن من الطبيعي إن ينتصر الإنسان لرأيه لأنه يعتقد
الصواب فهذا حق مشروع فقد قال الإمام الشافعي رحمه الله بكل أريحية ومهنية "
كلامي صواب يحتمل الخطأ وكلام غيري خطأ يحتمل الصواب "
ولكن عندما يصبح هذا الرأي عبأ على الآخرين و يؤدي إلى المشاحنات أو قد يتعدي إلى
التجريح فهاهنا يصبح الأمر مذموماً . وقد أدرك الشافعي
رحمة الله ببصيرته ذلك, فقد كان يقول " ما ناظرت أحدا إلا و تمنيت أن يكون
الحق على لسانه ". ويظهر جليا أن الشافعي نظّر لمسألة ثقافة الحوار قبل كثير
من المُنظّرين في العصر الحديث!. ولو اتبعنا هذا القاعدة البسيطة الألفاظ والقوية
في المعنى لأرحنا أنفسنا والآخرين في كثير من النقاشات التي تدور بيننا سواء على
المستوي الشخصي أو المستوي المهني . فنحن في بعض الاجتماعات المهنية ننتصر لأنفسنا
أكثر من انتصارانا للفكرة التي تخدم العمل أو المصلحة العامة , وذلك لأن العاطفة قد
تطغى أو تطفو على السطح من حينا إلى أخر, إما بسبب أسلوب التربية أو النقص العلمي
المعرفي أو قد يكون هو الأسلوب العام في البيئة المحيطة .
وقد تؤدي قلة ثقافة الحوار إلى أسوء من ذلك , ألا وهي قطع العلاقات الشخصية أو
المهنية بسبب الاختلافات في الآراء . ويبدو أن من جيل القرن الثاني الهجري من هم
أعقل و أوعى منّا في ثقافة الحوار على المستوى الشخصي والمهني. فقد قال يونس الصدفي
ما رأيت أعقل من الشافعي , ناظرته يوما في مسألة ثم افترقنا, فلما لقيني أخذ بيدي
وقال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة!.
وهناك بعض الظواهر التي تطفو للسطح من وقت إلى آخرو تبين النقص الواضح في فهم معنى
الحوار, ألا وهي ظاهرة رفع الأصوات عند الاختلاف, وقد انتبه إلى ذلك ابن الشافعي
فقال محدثا عن أبيه " ما سمعت أبي يناظر أحدا قط فيرفع صوته " وكم نحن
في أشد الحاجة لهذه الخصلة عندما نخاطب الآخرين الذين هم أقل من في الهرم المهني
والأسري.
لعله يوجد طرق متعددة لرفع مستوى ثقافة الحوار, لكن أعتقد أن الخطوة الأولى لذلك
والاهم, هي الإنصات للطرف الآخر وليس الاستماع ! . لأن الاستماع يكون في الغالب
بالأذنين فقط ,أما الإنصات فيكون بالقلب وربما امتد إلى بعض جوارحنا , فسبحان الله
الحكيم حين قال ( وَإِذَا قرئ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) . وقد سئل الكاتب ستفين كوفي والمؤلف لكتاب
"العادات السبع للناس الأكثر فعالية " عن أصعب وأهم عادة من هذه العادات
السبع, فقال " هي عادة فهم الآخرين بالإنصات إليهم, لأني مازلت أعاني منها
على المستوى الشخصي ! " . ولعل هذه العادة تزداد أهمية عندما يتقلد الإنسان منصب
قيادي أو إداري أو أُسري !
إن ثقافة الحوار ضرورة حضارية يجب أن تُرسّخ على المستوى الأسري و الاجتماعي و
المهني ,وحبذا لو أدرجت في المراحل الدراسية الأولى للطلاب والطالبات لتأسيس قاعدة
صلبة.
فثقافة الحوار ليست وليدة لحظة, بل هي تُبنى مع الجيل حتى تصبح عادة .