هل جربت مرةً أن تزرع بسمةَ رضا على شفاه ساخط , أو أن تزرع بسمةَ أمل على شفاه قانطٍ , أو أن تزرع وردةَ حبور في حديقة بائس محزون؟!...
جرِّب ذلك , وسوف ترى أن السرور الذي تدخلُهُ على نفسك يفوق السرور الذي أدخلتَه إلى نفس الساخط والقانط والبائس...لكن بشرطِ أن تكون مخلصاً في ذلك , وبشعورٍ نابع من صميم قلبك, وحرصٍ على فعل الخير لذاته , وإلا لن تشعر بذلك الشعورِ لأن فاقدَ الشيء لا يعطيه....
ففعل الخير واصطناع المعروف خلُق عظيم , وفاعل الخير محبوبٌ في الدنيا قبل الآخرة , لأن فعل الخير لا يأتي إلا بخير , كما أن فعل الشر لا يأتي إلا بشر , ومن يفعل خيراً لا بد أن يُجزى به , كما قال تعالى : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . الزلزلة 7ـ 8
ويلوح في خاطري قولُ الحطيئة :
مَنْ يفعل الخيرَ لا يَعدَمْ جوازيَهُ لا يذْهبُ العُرْفُ بين اللّهِ والنَّاسِ
وكذلك فإن الخير يبقى , وأما الشرُّ فمصيره إلى زوال , وهو أخبث زادٍ يتزود الإنسان منه, كما قال عبيدُ بن الأبرص:
الخيرُ يبقى وإن طالَ الزمانُ به والشرُّ أخبثُ ما أوعيتَ من زاد
وخيرٌ من الخير ـ كما قالوا ـ فاعلُه، وخيرٌ من الذهب معطيه , وفاعل الخير ومصطنعُ المعروف لن عملُه يضيع سدى , حتى وإن قدم هذا الخير لحجر أصمَّ , وجميل ما ذُكر في كتاب (جمهرة الأمثال) لأبي هلالٍ العسكريِّ :
ما ضاعَ عُرفٌ وإن أوليتَه حجَراً ..
وعلى الإنسان أن يفعل الخير للخير , وينتظرَ الثواب من الله لأن بعضَ الناس قد ينسى ما قدمت له من معروف , وما كان ربُّك نسيّاً , ولأن بعض الناس قد يضيّع ثوابَ الأعمال الحسنة , ولكن الله لا يُضِيعُ أجر من أحسن عملاً ,, لذلك قال حكيم الجاهلية وشاعرها زهيرُ بن أبي سُلمى :
ومنْ يجعلِ المعروفَ في غير أهله يكن حـمدُهُ ذمّاً عليه ويندمِ
وكذلك على المر أن لا يستصغرَ فعلَ معروفٍ مهما صغر ,لأنه قد يكون عند الله عظيماً ,وإن كان بعضُ الناس يرونه لا قيمة له , وإليك بعضَ الأمثلة لأعمال قليلةٍ ولكن قد غُفر لأصحابها:
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا ، فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَنِي ، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى ارتَقَى فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لأَجْرًا ؟ فَقَالَ : فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) رواه البخاري
وكذلك غُفر الله لامرأةٍ مومسةٍ لأنها سقت كلباً كما جاء في الحديث المتفق عليه :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ :( غُفِرَ لامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسَ رَكِيٍّ يَلْهَثُ ، قَالَ : كَادَ يَقُتُلُهُ الْعَطَشُ ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا ، فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا ، فَنَزَعَتْ لَهُ مِنَ الْمَاءِ ، فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ).
ومن المعروف وفعل الخير أن يتجاوزَ مَن يدايِنُ الناس عن المعسرين , وخاصةً في الأزمات , لأن الله سيتجاوز عنه يوم القيامة , وتأمل معي في هذا الحديث التالي :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إِنَّ رَجُلًا لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ , وَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ: خُذْ مَا تَيَسَّرَ وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ وَتَجَاوَزْ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا , فَلَمَّا هَلَكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ قَالَ : لَا , إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِي غُلَامٌ وَكُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَإِذَا بَعَثْتُهُ لِيَتَقَاضَى قُلْتُ لَهُ : خُذْ مَا تَيَسَّرَ وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ وَتَجَاوَزْ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْكَ ). رواه النسائي
وإذا أردتَ أن تعلم مَن هو أحبُّ الناس إلى الله , وما هي أحب الأعمال إلى الله , فالجواب في الحديث التالي :قيل يا رسول الله: من أحب الناس إلى الله ؟ قال :( أنفعُهم للناس , وإن أحب الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مؤمن, تكشف عنه كرباً, أو تقضي عنه ديناً , أو تطرد عنه جوعاً , ولأن أمشيَ مع أخي المسلم في حاجةٍ أحبُّ إليَّ من أن أعتكف شهرين في مسجدٍ , ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته ,ومن كظم غيظه ولو شاء أن يُمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضىً , ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم تزل فيه الأقدامُ , وإن سوء الخلُق ليفسدُ العمل كما يفسد الخل العسلَ.)
اصطناع المعروف ابن أبي الدنيا, قال المحقق الحديث حسن ثم إن فعلَ المعروف وإكرامَ السائل , وإغاثةَ الملهوفِ سجيّةٌ عندَ بعض الناس , فاستحق صاحبُ هذه السجيةِ أمدحَ بيتِ شعرٍ ثناءً له, ففي كتاب (الشعر والشعراء) لابن قتيبةَ , قال عبد الملك لقومٍ من الشعراء: أي بيت أمدحُ ؟ فاتفقوا على بيت زهيرٍ:
تَرَاهُ إذَا ما جِئْتَهُ مُتَهَلَّلاً ... كأَنَّكَ تُعْطِيهِ الِّذِي أَنْتَ سائِلُهْ
ختاماً : لا تقُل افعل خيراً وارم في البحر , بل افعل خيراً ولا ترم به في البحر, لأنك ستلاقيه خيرَ زادٍ
ولا تقل : اتق شرَّ من أحسنت إليه , بل تخلّقْ بأخلاق النبوة و أحسن إلى من أساء إليك, وتذكر دائماً قول الشاعر :
ازرعْ جميلاً ولو في غير موضعه فما يضيع جميلٌ أينما زُرِعا