انتهت الخلافة العباسية بعد اجتياح همجي ووحشي من قبل فرسان الحقد الأعمى الذين أعملوا القتل والتدمير والحرائق في بغداد فأحالوا عاصمة الخلافة الى مستنقع من الدماء..
وألقوا بمكتبة الخلافة وما اشتملت عليه من نفائس دفع الخلفاء ثمنها بما يوازي وزنها ذهباً أصفراً ، ألقوها في الماء، فابتلعتها مياه دجلة والفرات وصارت سوداء في يوم أسود دخيل كان قدر هذه الأمة الرائعة التي لم ينصفها التاريخ، قضوا على عاصمة الخلافة ثم يمموا صوب بلاد الشام لتكون هي الأخرى على موعد مع الموت، فحرثوا أرضها بجثث أبنائها.
يجمع المؤرخون على أن هذا الفعل الإجرامي لا يقدم عليه بل ويخجل من الإتيان به رجال الكهوف العراة الذين لم تصلهم الحضارة لا من قريب ولا من بعيد أما علوم العرب فلقد ضاعت فتأخرت الحضارة الإنسانية عن السياق الزمني الطبيعي ما يوازي الألف عام.
وبإسقاط نظرية ابن خلدون المتعلقة بنشوء الأمم وتطورها، على الأمة التي خرج هو من رحمها، نجده محقاً في رؤيته إلاّ فيما يتعلق بشطرها الأخير فهو يرى أنَّ الدولة تمر بالمراحل الثلاث الآتية :
1- الفكرة ثم الشوكة والعصبية التي ينبثق عنها قاعدة من الجند الأوفياء يقدمون النصر فتتوسع رقعة أراضي الأمة وتزداد ثروتها.
2- يعظم المال فينتشر الترف والبذخ فيضعف الجيش وينتشر الفساد بين قادته وتسوء أحوال الأمة.
3- تضعف الأمة وتنهار وتتقلص أراضيها ويتم اجتياحها وتنقرض ويضيع ملكها ومجدها .
وعلى الرغم من أن الأمة العربية قد تم اجتياحها وضاع ملكها ومجدها فإنها لم تنقرض وذلك بسبب وجود رجالات صناديد حالوا دون ذلك، عاصروا انهيار الدولة العربية وواكبوا مسيرة الظلم التي استمرت اربع قرون مقيته.
لم يكن أولهم شهداء 6 أيار ولن يكونوا آخرهم لأن بحر الشهادة هو تيار هادر لا يتوقف يحمي الأمة من الزوال، أما شهداء 6 أيار فلقد ربحوا هذه التسمية لأنهم استحقوها وعن جدارة كما ستأتي عليه المقالة.
وبالعودة إلى أواخر عهد الاحتلال العثماني المقيت فلقد استمرت جولات فرسان الحقد الأعمى من العثمانيين وورثتهم الشرعيين جماعة الاتحاد والترقي من غرب السلطنة حيث أبواب أوروبا إلى شرقها إلى العراق والى بلاد الشام وسفر برلك ومئات الألوف من العرب الذين قضوا في الصحراء وأمام ترعة السويس بعد أن هلك نصف الجيش في سيناء من العطش ونقص الإمداد والتموين.
وفرغت الشام من شبابها بهمة الدونما جمال باشا السفاح وتجلياته ومنها معركة الترعة وتجويع أهل الشام ومصادرة أرزاقهم وبذارهم وحلالهم ومحاصيلهم لخدمة المعركة ومحاكمات عاليه ومراجيح الأبطال والمشانق في بيروت والمشانق في دمشق وشفيق المؤيد العظم أشجع رجالات الشام، مع قوافل شهداء السادس من أيار اليوم وعضو مجلس المبعوثان في اسطمبول مندوباً عن سنجق الشام قبل اليوم ودمشق أم الشام والمجاعة تقتل أبناء الشام.
وبالعودة إلى مجلس المبعوثان الذي كان يقرر خراب الأمة العربية ويتهمها بتحولها إلى عبئ ملقى على عاتق السلطنة، وكان المجلس يستمع لمداخلة طلعت باشا بالنيابة عن الاتحاد والترقي المتضمنة الدعوة لتبني سياسة التتريك والمنهج الطوراني وتذهب المداخلة إلى أن العرب أسهموا في تخلف الدولة العثمانية وصاروا عالة عليها وكان طلعت يضرم النار في قلب شفيق بك المؤيد العظم حامل لواء الشام والعروبة وآمالها وأمانيها.
ولأن الجدال عبثي ولأن الإهانة التي تلقاها شفيق بك المؤيد العظم تزلزل الجبال فلقد توجه شفيق بك المؤيد العظم نحو الخطيب المتفوه وصفعه صفعة أهدرت لحم وجنته فوقع على الأرض فأقترب منه شفيق المؤيد العظم ووضع أسفل حذائه على وجه الخطيب وأنفه وفمه وشاربيه وقال له: هذا سيعلمك ما سأقوله لك فتنفذه وأنت صاغر:
إن راودتك نفسك وتحدثت عن العرب ثانيةً، فعليك أن تضع يداك على رأسك.
ولم يكن ثالوث الدونما القذر طلعت باشا وأنور باشا وجمال باشا وقتذاك في السلطة بل كانوا جميعاً في المعارضة متخفين يجوبون أروقة قصور السلطان الأحمر ومجالسه قبل أن ينقلبوا جميعاً على اليد التي كان يطيب لهم تقبيلها.
وتشاء الأقدار أن ينجح انقلاب الاتحاد والترقي وأن يعين جمال باشا السفاح وزيراً للبحرية وأنور باشاً وزيراً للحربية وطلعت باشا وزيراً للداخلية، فتبدأ لعبة تصفية الحسابات.
حيث أرسل طلعت باشا أنور ليبحث عن شفيق بك المؤيد العظم ليستد منه فعثر عليه في دمشق وضمه إلى قافلة الأحرار وكان جمال باشا السفاح يرقب حفلة الإعدام من شرفة مكتب المحامي البطل الشهيد شفيق المؤيد العظم في بناية العابد المطلّة على ساحة المرجة متخفياً جباناً.
وكان شفيق المؤيد العظم لا ينبث ببنت شفه ويوجه أقسى نظرات الاستخفاف للباشا ويبتسم ليشعل النار في قلب جمال وبالتالي من أرسله ويحرك شفيق بك الحذاء الذي ينتعله في قدمه اليمنى ليذكّر عضو الثالوث القذر بحفلة الذل تحت قبة مجلس المبعوثان.
وكان يوم السادس من أيار هو يوم الشهداء ... يوم مراجيح الأبطال... الذين أبوا إلاّ أن يروا العلم العربي يرفرف في سماء الوطن الحرّ المستقل... ودفعوا في سبيل ذلك كل غالٍ ونفيس... وقدموا أرواحهم رخيصة على مذبح الحرية وفداءً للوطن وحالوا دون تحقق المرحلة الثالثة من نظرية ابن خلدون على الرغم من أن هناك امبراطوريات سحقها التاريخ وانقرضت وزالت عن الوجود ومنها تلك الامبراطورية التي كانت القسطنطينية عاصمة ملكها فصارت أثر بعد عين ليتم استضافتها وشعبها واباطرتها في كتب التاريخ.
شهداء 15 آب 1915
عبد الكريم الخليل ـ محمود المحمصاني ـ محمد المحمصاني ـ عبد القادر الخرسا ـ نور الدين القاضي ـ سليم أحمد عباس الهادي ـ محمود نجا عجم ـ محمد مسلم عابدين ـ نايف تللو ـ صالح حيدر ـ علي الأرمنازي (أعدموا في بيروت).
شهداء 6 أيار 1916
شفيق بك المؤيد العظم ـ الشيخ عبد الحميد الزهراوي ـ الأمير عمر الجزائري ـ شكري العسلي ـ عبد الوهاب الأنكليزي ـ رفيق رزق سلوم ـ رشدي الشمعة.
(أعدموا في دمشق)
بترو باولي ـ جرجي الحداد ـ سعيد عقل ـ عمر حمد ـ عبد الغني العريسي ـ الأمير عارف الشهابي ـ الشيخ أحمد طيارة ـ محمد الشنطي اليافي ـ توفيق البساط ـ سيف الدين الخطيب ـ علي محمد حاج النشاشيبي ـ محمود جلال البخاري ـ سليم الجزائري ـ أمين لطفي الحافظ.
(اعدموا في بيروت).
ووصلت طلائع الجيش العربي بقيادة الشريف حسين وأولاده الأمراء الأجلاء وتولى الأمير فيصل تنظيم عمليات المقاومة وتفجير القطارات المحملة بجيوش الرعاع المنهزمين الذاهبة بلا عودة بإتجاه الشمال والإغارة على المنهزمين الذين روعوا الوطن العربي بعد العز والمجد طيلة اربع قرون، وابتسم الشهيد شفيق بك المؤيد العظم في قبره أول مرة عندما لمح العلم العربي يرفرف فوق دار الحكومة
وتعانقت أصوات المآذن وأجراس الكنائس ... معلنة نشأة فجر جديد ... فجر الخلاص والحرية ... وتحرر الوطن العربي من نير الاحتلال العثماني البغيض ومن ربق العبودية ونال شعبنا الحرية، لأن (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) صدق الله العظيم.