يلاحظ كارل جروين في مقالته الضحلة، ولكن الممتعة أحياناً، التي تحمل عنوان (الحركة الاشتراكية في فرنسا وبلجيكا)، يلاحظ محقاً أن نظريتي فورييه وسان سيمون كان لهما تأثيران مختلفان على أتباع كل منهما.
فقد كان سان سيمون السلف الروحي لجيل كامل من البحاثة والكتاب اللامعين في حقول متنوعة من النشاط الفكري، ولكن أتباع فورييه كانوا، عدا استثناءات قليلة، أشخاصاً يرددون كالببغاوات كلمات معلمهم، وكانوا عاجزين عن تطوير تعاليمه. ويفسر جروين هذا الاختلاف بأن فورييه قدم للعالم نظاماً مكتملاً في أدق تفاصيله، بينما ألقى سان سيمون لتلاميذه بحزمة مفككة من الأفكار العظيمة.
وعلى الرغم من أنه يبدو لي أن جروين لا يعير
اهتماماً كافياً للفرق الداخلي الجوهري بين نظريتي هذين المعلمين الكلاسيكيين في
حقل الاشتراكية الطوباوية، إلا إنني أشعر أن ملاحظته محقة على وجه العموم. فليس من
شك في أن نظاماً من الأفكار موضوعاً في خطوطه العريضة فحسب يشكل حافزاً أكبر بكثير
من بناء مكتمل متناسق لا يترك شيئاً ليضيف ولا يعطي مجالاً للجهود المستقلة للعقل
الفعال.
أيعود هذا إلى أن النظام الماركسي فرض إطاراً صلباً
جداً على النشاطات المستقلة للعقل؟ لا يمكن إنكار أن ماركس قد مارس تأثيراً حدَّ
إلى درجة ما من التطور الحر للنظرية في حالة الكثيرين من تلامذته.
فقد وجد ماركس وإنجلز نفسيهما ماركسيَّيْن! وقد يكون الجهد المدقق للمحافظة على
الأمور (ضمن نطاق الماركسية) أدّى إلى نتائج مدمرة على صعيد سلامة عملية الفكر
تماثل تلك التي أدى إليها النقيض الآخر وهو التخلي الكامل عن النظرة الماركسية
والتصميم على إبداء (استقلال الفكر) مهما كانت المخاطر.
ولا يحق لنا أن نتحدث عن جسم مفصل تماماً إلى هذا الحد أو ذاك من العقائد حبانا بها
ماركس إلا فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية فحسب. فأكثر تعاليم ماركس قيمة، وهو
المفهوم المادي الجدلي للتاريخ، يقدم نفسه لنا بما لا يزيد عن وسيلة للبحث وبضعة
أفكار رائدة ملهمة تعطينا لمحات عن عالم جديد تماماً، مما يفتح أمامنا مجالات
للنشاط المستقل لا تنتهي ويحمل أرواحنا على أجنحته إلى صراعات جريئة في مناطق لم
ترتد من قبل.
ولكن هل هناك من حاجة حقيقية إلى تطوير الماركسية وتطلب فعّال لذلك؟ يسخر برنارد شو، المنظِّر الموهوب للفابية شبه الاشتراكية، في مقالة له في المناظرة بين المدرستين الماركسية والجيفونزية *في إنكلترا، يسخر من هيندمان لقوله إن المجلد الأول من (الرأسمال) مكنه من أن يفهم ماركس فهماً كاملاً، وأنه ليست هناك فجوات في النظرية الماركسية _ على الرغم من أن فريدريك إنجلز أعلن فيما بعد في مقدمته للمجلد الثاني من (الرأسمال) أن المجلد الأول، بنظرية القيمة فيه، ترك مسألة اقتصادية أساسية لن يقدم حلاً لها إلا عند نشر الجزء الثالث. نجح (شو) هنا بالتأكيد في جعل موقف هيندمان يبدو سخيفاً، رغم أنه يمكن لهيندمان.. أن يستمد عزاء من أنه كان والعالم الاشتراكي كله في قارب واحد عملياً!
لم يظهر المجلد الثالث من (الرأسمال) بالحل لمسألة وتيرة الربح (وهي المسألة
الأساسية في الاقتصاد الماركسي) إلا في العام 1894. ولكن التحريض في ألمانيا كما في
غيرها من الأقطار جرى واستمر بمساعدة المواد الناقصة التي احتواها المجلد الأول،
وجُعلت العقيدة الماركسية شعبية ووجدت قبولاً على أساس هذا المجلد الأول فحسب، فكان
نجاح النظرية الماركسية ناقصة أمراً لم يسبق له مثيل، ولم يدرك أحد أي فجوة في
تعاليمها.
أكثر من ذلك، عندما رأى المجلد الثالث النور أخيراً اجتذب بعض الانتباه في البداية
في حلقات محصورة من الخبراء حداً معيناً من التعليق، أما فيما يتعلق بالحركة
الاشتراكية ككل، فلم يكن للمجلد الجديد عملياً أي أثر في المجالات الواسعة التي
كانت الآراء المطروحة في المجلد الأول قد سيطرت عليها. ولم تجر حتى ذلك الحين أية
محاولة لنشر النتائج التي توصل إليها المجلد الثالث على نطاق شعبي.
كما أن هذه النتائج لم تلاق انتشاراً واسعاً. على العكس من ذلك، فإننا نسمع اليوم أحياناً حتى في أوساط الاشتراكيين الديمقراطيين أصداء (خيبة الأمل) بالمجلد الثالث التي كثيراً ما يعبر عنها الاقتصاديون البرجوازيون، وبذلك يبين هؤلاء الاشتراكيون الديمقراطيون كيف أتهم قبلوا العرض (الناقص) لنظرية القيمة كما ورد في المجلد الأول قبولاً تاماً.
فكيف لنا أن نفسر هذه الظاهرة الهامة؟
يقيناً أن المجلد الثالث من الرأسمال يجب أن يكون من وجهة النظر العلمية تكملة لنقد ماركس للرأسمالية. فدون هذا المجلد الثالث لا يمكننا أن نفهم قانون وتيرة الربح المسيطر في الواقع، ولا انقسام فائض القيمة إلى ربح وفائدة وإيجار، ولا كيفية عمل قانون القيمة ضمن حقل المنافسة. ولكن النقطة الرئيسية هي أن هذه المسائل جميعاً، مهما كانت هامة من وجهة نظر النظرية البحتة، لا أهمية لها نسبياً من وجهة النظر العلمية، وجهة نظر الحرب الطبقية. إن المسألة النظرية الأساسية فيما يتعلق بالحرب الطبقية هي مسألة أصل فائض القيمة أي التفسير العلمي للاستغلال مضافاً إليها مسألة توضيح الاتجاه نحو تشريك عملية الإنتاج أي التفسير العلمي للأرضية الموضوعية للثورة الاشتراكية.
كل من هاتين المسألتين محمولة في المجلد الأول من
الرأسمال الذي يستنتج أن (نزع ملكية نازعي الملكية) هو النتيجة النهائية الحتمية
لإنتاج فائض القيمة، وللتركيز المطرد للرأسمال. وهذا يشبع الحاجة الجوهرية للحركة
العمالية فيما يتعلق بالنظرية. فالعمال المنغمسون في الحرب الطبقية بنشاط لا يهتمون
اهتماماً مباشراً بمسألة كيف يتوزع فائض القيمة بين المجموعات المختلفة من
المستغِلين، أو مسالة كيف أن المنافسة في سياق هذا التوزيع تؤدي إلى إعادة ترتيب
الإنتاج.
هذا هو السبب الذي يجعل المجلد الثالث من الرأسمال يبقى كتاباً مقروءاً من جانب
الاشتراكيين عامة.
ولكن ما ينطبق في حركتنا على نظريات ماركس الاقتصادية ينطبق على البحث النظري بصفة
عامة، إنه لخيال محض أن يفترض المرء أن الطبقة العاملة في نضالها الصاعد يمكن أن
تصبح من تلقاء ذاتها خلاقة بلا حدود في مجال النظرية. صحيح كما قال إنجلز إن الطبقة
العاملة اليوم هي الوحيدة التي احتفظت بتفهم النظرية والاهتمام بها. وتوق العمال
إلى المعرفة توقاً شديداً هو أكثر مظاهر عصرنا الثقافية جدارة بالملاحظة. وكذلك فإن
نضال الطبقة العاملة دليل على التجدد الثقافي للمجتمع أخلاقياً. ولكن مشاركة العمال
مشاركة فعالة في تقدم العلم رهن بتحقيق شروط اجتماعية محددة.
فالثقافة الفكرية (العلم والفن) في كل مجتمع نتاج الطبقة الحاكمة، وهدف هذه الثقافة في جزء منه ضمان الإشباع المباشر لحاجات العملية الاجتماعية، وفي الجزء الآخر إشباع الحاجات الفعلية لأفراد الطبقة الحاكمة.
لكن البروليتاريا في وضع مختلف تماماً، فهي كطبقة
لا تملك، ولا تستطيع في نضالها الصاعد أن تخلق تلقائياً ثقافة عقلية خاصة بها، وهي
لا تزال ضمن إطار المجتمع الرأسمالي. ففي داخل هذا المجتمع وما دامت أساساته
الاقتصادية قائمة، لا يمكن أن تكون ثقافة غير الثقافة البرجوازية. وعلى الرغم من أن
بعض الأساتذة (الاشتراكيين) قد يدعي أن وضع البروليتاريين أربطة عنق واستخدامهم
للدراجات وبطاقات الزيارة حالات ملحوظة من اشتراك الطبقة العاملة في التقدم
الحضاري، إلا أن الطبقة العاملة كذلك تبقى خارج حدود الحضارة المعاصرة. فعلى الرغم
من أن العمال يصنعون بأيديهم الأساس الاجتماعي لهذه الحضارة كله، إلا أنه لا يسمح
لهم بالتمتع بها إلا بالقدر الذي يتطلبه قيامهم بأعمال في العملية الاقتصادية
والاجتماعية للمجتمع الرأسمالي بصورة مرضية.
ولن يكون بوسع الطبقة العاملة أن تخلق علماً وفناً خاصَّيْن بها حتى تتحرر تحرراً
تاماً من وضعها الطبقي الراهن.
ولكن هذا التحفظ يفرض على الطبقة العاملة (أي على قادتهم الفكريين) حدوداً ضيقة
جداً في حقل النشاط الفكري. فمجال طاقتهم الخلاقة مقتصر على حقل واحد محدد من حقول
العلم هو العلم الاجتماعي. ذلك أنه بقدر ما أصبحت الاستنارة فيما يتعلق بقوانين
التطور الاجتماعي ضرورية للعمال في نضالهم الطبقي (بفضل الارتباط الفريد لفكرة
الفئة الرابعة بمرحلتنا التاريخية)، فإن هذا الارتباط قد أتى بنتائج مثمرة في العلم
الاجتماعي، وأصبحت العقيدة الماركسية صرح الثقافة البروليتارية في عصرنا الحاضر.
ولكن ما خلقه ماركس، وهو كلّ جبار كإنجاز علمي، يتخطى المتطلبات البسيطة للصراع
الطبقي الذي خلق تلبية لأغراضه. فقد أعطى ماركس بتحليله المفصل والشامل للاقتصاد
الرأسمالي وبطريقته في البحث التاريخي التي تجد مجالاً للتطبيق لا حدود له، أعطى
أكثر بكثير مما تستدعيه الحاجة المباشرة لخوض الحرب الطبقية عملياً.
فإذا كنا اليوم نستشعر ركوداً في حركتنا فيما يتعلق بهذه المسائل، فليس ذلك لأن
النظرية التي نستمد منها غذاءنا قد أصبحت غير قادرة على التطور أو أن الزمن قد عفا
عليها. بل على العكس، إن ذلك يعود إلى أننا لم نتعلم بعد كيف نستخدم استخداماً
كافياً أهم الأسلحة العقلية التي أخذناها من الجعبة الماركسية بسبب الحاجة الملحة
إليها في المراحل الأولى لنضالنا. وليس صحيحاً أن ماركس قد عفا عليه الزمن فيما
يتعلق بالنضال العملي، أو أننا تخطيناه. على العكس من ذلك، إن ماركس في إبداعه
العلمي فاقنا كحزب مناضلين عمليين. ليس صحيحاً أن ماركس لم يعد يفي بحاجتنا. على
العكس من ذلك، ليس حاجتنا بعد كافية لاستخدام كل أفكار ماركس.
نسبة إلى جيفونز، وهو اقتصادي وعالم منطق إنكليزي أتى بنظرية المنفعة.
1903 نقلاً عن (مركز الدراسات والأبحاث الماركسية)
روزا لوكسمبورغ