news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
مقالات
في صيرورة وسيرورة تشكّل مفهوم الحداثة... بقلم : المهندس فتحي الحبّوبي

 (الحداثة هي اللحظة ذاتها، إنّها ذلك الطائر الموجود في كل مكان ولا مكان، وعندما نريد أن نقبض عليه حيّاً فإنه يفتح جناحيه ويطير متحوّلاً إلى قبضة من المقاطع والحروف) - (أوكتافيو باز، الحائز على جائزة نوبل 1990) كأنه في مناقشة مسألة علاقة التنافر التي تجمع بين المسلم والحداثة.


ولا يجادل أحد، مهما كان انتماؤه الفكري، في أنّ للسلفيّة الموغلة في الماضي، رؤيتها الماضويّة التي ليس لها حضور فاعل في الراهن المعيش. لأنّها بالأساس ليست أكثر من إعادة إنتاج لهذا الماضي بحذافيره، كما هو، بغثّه وسمينه، ودون زيادة أو نقصان. فهي بهذا المعنى، تتعارض في مفهومها مع الفكر التنويري الذي يسعى، دوماً، لإنتاج الحاضر والمستقبل عبر التحوّلات الحداثيّة التي لا تتوقّف في سيرورتها عند صيرورة إلاّ لتتابع مسارها بنسق سريع نحو غيرها. حتّى عرّف أحد العلماء الغربيين الحداثة بأنّها (مقدرة الإنسان على تغيير قيمه بعد إشعار قصير). وذلك من خلال اكتشافات واختراعات علميّة وإضافات معرفيّة، بل وإبداعات فكريّة وفنّيّة، هي لمسات الإنسان المعاصر وبَصْمته وإسهاماته، بل وحصّته أو منابه من التاريخ. ومن هنا فإنّ إنتاجه الفكري والحضاري بوجه عام يتّصف بالحديث ويتنزّل في سياق الحداثة فيما يتّصف هو بالحداثي. ولكن ما هو مفهوم الحداثة؟ وما هو مسار تطوّرها عبر التاريخ؟


 لقد بات اليوم من شبه المؤكّد أن الإرهاصات الأولى لملامح الحداثة، تعود بالأساس إلى حركة الإصلاح الديني خلال القرن السادس عشر، التي تزعّمها مارتن لوثر والتي تمايزت بها أوربا المسيحيّة آنذاك عن العالم الإسلامي. وبرزت بوضوح في الصراع بين أنصار القديم وأنصار الجديد. وهو الصراع الذي أخذ شكلاً أدبياً في غضون القرن السابع عشر بين الشعراء والكتاب. أذكر من هؤلاء على سبيل الذكر كل من نيكولا بوالو، وراسين ولا فونتين، ولا برويير وهم من أنصار القديم، أو بالأحرى من أنصار محاكاة الأدب الكلاسيكي الذي عدوه قمّة الإبداع، من جهة، وبين الأدباء والكتّاب المسرحيين من أمثال بيار كورناي, وشارل برّو وفيليب كينو وبرنار دي فونتنال،

 

 من أنصار الأدب الحديث الذين يرون ضرورة تجديد الأشكال الإبداعيّة ومواكبتها لقضايا العصر، من جهة ثانية. وقد خفت هذا الصراع الأدبي الحادّ لبعض الوقت ليعود بقوّة من جديد في غضون القرن الثامن عشر. وكان من أبرز تجلّياته، بعد انطلاق الخلاف ما بين ماريفو، المتمسّك بتلابيب القديم، وديدرو صاحب الموسوعة الفرنسيّة، المنحاز إلى التيّار التجديدي الحداثي. تلك الخصومة الأدبيّة الشرسة والشهيرة التي دارت بين فيلسوفَيْ عصر التنوير في فرنسا فرانسوا ماري أرويه المشهور باسم فولتير، وهو الأرستقراطي صاحب الطبع الشرس والحظوة لدى السلطة، وجان جاك روسو ذلك اليساري الفقير. وكان ذلك من خلال دفقٍ من الرسائل المتبادلة التي طفحت بالكره والحقد والاحتقار الذي ميّز العلاقة بين الرجلين.


وكان من نتائج هذا الحراك والخصومات أن أصبح مفهوم الحداثة متأثّراً بتصورات ورؤى مفكري التنوير الذين هاموا بالديمقراطيّة والحريّة والعقلانيّة العلمانيّة والتقدّم المادّي إلى حدّ العشق والتقديس. لذلك فهمت الحداثة على أنّها عصارة الافكار التي جاء بها مفكرو عصر الأنوار الإنجليز، وأهمّهم جون لوك، صاحب كتاب (بحث في الحكومة المدنيّة) (Traité du gouvernement civil)، والفرنسيين وأهمّهم مونتسكيو صاحب كتاب (عن روح القوانين) (De l\'esprit des loi)، الذي نادى بفصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية لتحقيق الحريّة، وفولتير الذي نادى بنقل الحكم من الإقطاعية إلى البرجوازيّة، مع الحفاظ على الفوارق الاجتماعيّة، وجان جاك روسو الذي وضع نظريّة العقد الاجتماعي التي يتولّى الشعب بمقتضاها السلطة التشريعيّة، وتتولّى الحكومة تنفيذ القوانين، على أن تكون رهن إشارة الشعب الذي له الحق في أن يسحب ثقته منها متى شاء ذلك. وغاية الغايات من تلك القوانين، إنّما هي تمتّع الجميع بالحريّة والمساواة بنفس القدر الممكن.


 ثمّ جاء، كل من شارل داروين وكارل ماركس، وفردريك نيتشه وسيغموند فرويد، فأعلنوا تمرّدهم على البنى التقليديّة للتصوّرات الدينيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة التي وجدوا المجتمع الغربي عليها. فأصبحت الحداثة ضرباً من القطع النهائي مع الماضي ومع التقليد، وخاصة مع التراث الديني. وفي هذا المعنى يقول أنطوني جيدن: (إنّ الحداثة تتمثّل في نسق من الانقطاعات التاريخية عن المراحل السابقة حين كانت تهيمن التقاليد والعقائد ذات الطابع الشمولي والكنسي). ويقول عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر معرّفاً الحداثة بأنها (فصم الائتلاف والوحدة بين السماء والأرض ممّا يجلي العالم عن وهمه ويلغيه من سحره). من هذا المنطلق فإن الحداثة تغاير جذريّاً وتتعارض إلى حدّ التصادم مع المفاهيم التقليديّة، الدينيّة والثقافيّة والفنيّة والأخلاقيّة والاجتماعية، المتّسمة بالجمود والتكلّس. حتّى قال أحدهم: (كل مبدع حداثي، وكل مقلّد غير حداثي، حتّى وإن قلّد الحداثة نفسها، لأنّ التقليد هو نقيض الحداثة).

 

 والحداثة في نهاية التحليل تقوم على تبنّي العقل وتقديسه واستخدام العلم والتكنولوجيا الآليات الوحيدة للتعاطي مع الواقع، ونزع القداسة عن كل الظواهر لتتحول إلى مادة للاستعمال. بما يعني فصل السياسة عن الدين وفرض إرادة الفرد المطلقة وتكريس وعيه بالحريّة . علاوة على ما يستتبع ذلك من إعلاء لمنزلة الإنسان ليصبح عند نيتشه، الإنسان الأعلى أو السوبرمان، في سياق فلسفة القوّة، سليلة الفلسفة الماكيافيليّة، التي نادت بضرورة اعتبار الدولة كقيمة أخلاقية مطلقة تتجاوز كل المطلقات دونها، لتخلص بعد ذلك إلى المقولة الشهيرة (الغاية تبرّر الوسيلة) لضمان استمراريّة الدولة. وبديهي أن أخلاقيّات ماكيافيلي تتعارض مع الأخلاقيّات المسيحيّة التقليديّة، التي تدعو إلى التسامح والتواضع. وهو ما ينتج عنه اضطراب الدولة حسب زعم ماكيافيلي. ممّا يستوجب أخلاقاً تمجّد القوة والسلطة والاستقلال والطموح. لذلك، فهو يقول: (قلّد الثعلب والأسد) و(لا تتوان عن ارتكاب الشرور) و(رهبة خير من محبّة) و(لا تكفّ عن التظاهر والكذب)، ونحوها من المقولات الموسومة بـ (الواقعيّة) بالمعنى المادي للكلمة. هذه الواقعيّة التي تنحاز إلى ما هو ومن هو قائم، ولا تنحاز بالمطلق لما هو ومن هو المفترض أن يكون في إطار مرجعيّة دينيّة. وهي إحدى تعبيرات فصل الدّين عن الدولة التي كان ماكيافيلي أوّل من نادى بها خلال القرن السادس عشر، ولم يسبقه في ذلك سوى الفيلسوف الفذّ ابن رشد.


 ولعلّ هذا الطرح يتّفق تماماً مع فكر توماس هوبز الفيلسوف العلماني الإنجليزي الذي يرى أنّ منظومة القيم (عديمة الجدوى) وأن) (المجتمع هو ساحة قتال الجميع ضد الجميع). ويرى أن (الدافع وراء سلوكنا ليس محبّة رفاقنا بقدر ما هو حبّ أنفسنا، فكل امرئ يحاول أن يزيد ثروته أو سلطته أو نفوذه إلى الحد الأقصى. والقيم والأخلاق والأخلاقيات ليس لها معنى إلا في إطار إشباع هذه الرغبات). من هنا نفهم الجفاء والعلاقة التصادميّة، العدائيّة، بين الحداثيين من جميع المشارب اليساريّة واللائكية، من جهة، والإسلاميين وخاصة منهم السلفيين، من جهة ثانية.ومن هنا نفهم كذلك، لماذا يختصر بعضهم مفهوم الحداثة في أنّها لا تتعدّى (حريّة الإنسان في إشباع رغبات نصفه الأسفل دون قيود أخلاقية). وهذا الطرح التبسّيطي والتسطيحي المقصود، يتعسّف على الحداثة، ولا يمكن أن يأتيه إلا من يهرف بما لا يعرف. وفي ذلك تحقير للحداثة وتقزيم لها عن جهل، باعتبارها رجماً لنسق معرفي وصناعي منظّم ومنهج فكري ونمط حياة وممارسة اجتماعية وثقافيّة متكاملة، من مقوّماتها الأساسيّة العقلانيّة والتجديد والإبداع بنسق سريع، هو نسق الحياة العصريّة أو الحداثيّة، وفق تعريف أوكتافيو باز المشار إليه مطلع المقالة.

 

 

 

 

 

 

2012-05-21
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)