التحرش ظاهرة اجتماعية تجتاح المجتمعات، وخاصة التي تكثر فيها الحواجز بين الجنسين، وأخذت تبرز في مقدمة اهتمامات الدول اليوم، بعد أن كانت تعالج في الخفاء ، فأُنشئت من أجلها المنظمات المناهضة، وعُقدت المؤتمرات، وسُنَّت القوانين.
وتتلون مظاهر التحرش بين التحرش الشفهي من إطلاق
النكات والتعليقات المشينة، والتلميحات الجسدية، والإلحاح في طلب لقاء، وطرح أسئلة
جنسية، نظرات موحية إلى ذلك، ثم تتصاعد حتى تصل إلى اللمس والتحسس والقرص، وهو يعد
من ألوان إهانة المرأة وإذلالها.
في المقابل يجد الرجال مبررات كثيرة لتفسير هذه الظاهرة التي يمارسونها، سواء أكان
ذلك في الشارع أم في العمل، معتمدين في تبريرهم على وضع المسؤولية على الفتاة التي
لا تتحفظ في اختيار ملابسها وطريقة ظهورها.
معاناة الفتيات واقع بذكرى أليمة:
تختلف قصص التحرش من امرأة إلى أخرى فلكلٍّ تجربتها، ولكل ألمها الذي بقي محفوراً
في الذاكرة لا تستطيع التخلص منه أبداً. ففي حين سعى بعضهن لإيصال قضيتهن والمطالبة
بإيجاد قانون وازع، فضَّلَتْ أخريات الصمت خوفاً من الفضيحة أو مشاكل داخل الأسرة.
وللوقوف على هذه الظاهرة التقت جريدة (النور) عدداً من الفتيات العاملات:
فالمدرِّسة نورا تعمل في إحدى المدارس الحكومية قالت: (سررت كثيراً في البداية لأن
مدير المدرسة صديق والدي، وهو متزوج وله أبناء أكبرهم بعمري، وبدأ يكشف عما في نفسه
عبر رسائل الحب ونظراته المتكررة إليّ، حتى أصبح يُنشد فيّ الأشعار. ولم تنفع
محاولاتي معه بل زادته إصراراً وسفاهة في كلماته، ولجأ إلى اللمس والاحتكاك عن عمد،
وطرح النكت الجنسية، محاولاً إغوائي بالكلام، ثم طلب الاتصال الجنسي على نحو غير
مباشر).
وعن محاولتها ردعه قالت: (غالباً ما يصعب على الفتاة الرد أو حتى اللجوء إلى المحاكم لمقاضاة من يتعدى على حريتها، لعدم وجود قوانين مختصة بهذا الجانب، الأمر الذي ساهم في استمرار هذا الوضع في ظل عادات وتقاليد تحمي الرجل إلى حد كبير من سلوكٍ كهذا في مجتمع يسيطر فيه الرجل كالمجتمع السوري).
و قالت الطبيبة رولا عن عدم ردها على المعاكسات التي تعترضها في طريقها إلى عملها:
(إن الرد على التحرش قد يكلفني الكثير، إذ يستخدم الشباب في بعض الأحيان كلمات
نابية، وإذا دافعت الفتاة عن نفسها، فقد يكون مصيرها الدخول في دوامة من المشادات
الكلامية التي قد لا تنتهي).
بعض الضحايا تخاف من فقد عملها:
تذكر فاطمة كم أنها تكره الذهاب إلى عملها، فرئيسها يتحرش بها جنسياً كل يوم،
وتقول: (إني شعرت بأني أسيرة الحاجة لكسب رزقي، وبالعجز عن مقاومة إساءاته وتحرشاته
المباشرة). وأردفت قائلة: (هذا السلوك يهين النساء ويمس بكرامتهن، خاصة عندما يحدث
في العمل، إذ يقوم ذكور باستغلال نفوذهم، الأمر الذي يجبر عدداً من النساء على
مغادرة عملهن).
ومعاناة سعاد لا تختلف كثيراً عن فاطمة، فهي تعمل سكرتيرة لمدير في إحدى الشركات،
وتعيش حالة من القلق والتوتر بسبب تصرفاته اللاأخلاقية، وقالت: (أقضي معه معظم وقت
العمل ساعية لتجنب نظراته الوقحة ومحاولاته المستمرة للمسي، وبدأت أنقل هذه العصبية
إلى بيتي، وأخذت تنعكس على أولادي)، وتابعت تقول: (إنَّ الحاجة وضرورة العمل
ومتطلبات الحياة تجبر المرأة على الخروج إلى العمل، وتحمُّل شذوذ الكثير من أصحاب
العمل).
تأثير على العمل:
إحدى الطالبات في علم الاجتماع قالت: (يؤثر ميل الشباب
للتحرش بالفتيات على سير العمل وقوته، خاصة إذا كان صاحب القرار يدعم ذلك، فالقبول
لن يكون على أساس الكفاءة والمؤهلات، بل ستتغير أوليات التوظيف. فالجمال والمظهر
الحسن هما أهم الصفات المطلوبة في المتقدمة عند من نفسه مريضة بهذه الظاهرة).
التحرش بالفتيات مسؤولية من؟
يؤكد علماء الاجتماع في أبحاثهم ودراساتهم وجود خلل حقيقي في القيم لدى الشباب
وتناقض في أفكارهم بين القبول بمعطيات الحاضر من جهة والتمسك بالموروثات من جهة
أخرى، وكشفت العديد من الدراسات التي أجريت في البلاد العربية عن فداحة الموقف ومدى
تفاقم الظاهرة التي باتت مؤشراً على التدني الأخلاقي، والذي يحتاج بما لا يدع
مجالاً للشك إلى تدخل سريع لا من الدولة فحسب، بل ومن كل الجهات المعنية: (الأسرة،
المؤسسات التعليمية والاجتماعية، الإعلام وغيره) حتى يمكن تدارك الموقف.
والخطأ الأساسي لانهيار القيم يرجع إلى أسلوب التنشئة الاجتماعية والتربية داخل
المجتمع، إضافة إلى ضعف دور الأسرة التي تدفع الأطفال للخطأ، كما أن التعليم
والعلاقات في المدرسة لا تدعم الثقافة الأخلاقية، إضافة إلى حدوث أزمة إعلامية تشجع
السلوك اللاأخلاقى بسبب انتشار العري والانحراف والفساد في المسلسلات، كما أن
الخطاب الديني الثقافي العام أصبح يعتمد على الترهيب لا على الترغيب، وابتعد عن
ثقافة بناء السلوك.
ختاماً إن التحرش الجنسي ظاهرة أخلاقية بالأساس، لكن لها في الوقت نفسه أبعاداً
اجتماعية، ولا يمكن فصل أي ظاهرة اجتماعية عن التطور التاريخي للمجتمع والأحداث
التي يتعرض لها، إذ كانت هذه الظاهرة إحدى إفرازات السنوات القلية الماضية من
متغيرات أدت لظهور عادات وتقاليد لم تكن معروفة لدينا من قبل. وأدعو لقانون خاص
بالتحرش الجنسي في الوقت الحاضر، وذلك نتيجة لتفاقم هذه الظاهرة عاماً بعد آخر، وإن
كنت أرى أن ذلك ليس بمفرده الحل الأمثل للقضاء على الظاهرة أو الحد منها، إذ إن
هناك من التشريعات ما يكفي مثلاً للقضاء على الفساد السياسي والاقتصادي، ولكن هذا
لم يحدث، فيجب أن يكون مصحوباً بتنمية في المجال التعليمي وتعزيز الوعي الاجتماعي
ونشر ثقافة العمل وغيره.
علاء أوسي