news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
مقالات
كُنْ عِصَاميّاً ولا تكُنْ عِظاميّاً... بقلم : مصطفى قاسم عباس

كان أبي ...كان جدي ...وفي كل مجلس ومحفِلٍ : كان أبي وكان جدي ..., وإذا ما تفاخر ذوو الفخر وأولو المجد نراه يتبجَّح بأعلى صوته و يقول دائماً : كان أبي وكان جدي ...


.. ويبقى السؤال : صحيح أنهما كانا وكانا , ولكنْ ,  من أنت ؟ وهل تسير على ذات الدرب التي سار عليها أبوك وجدك ؟ إذا كنت كذلك ـ وكان الدربُ الذي ساروا عليه قبلك دربَ أخلاق وعلم ورقيٍّ وسموٍّ وأدبٍ ـ ...فأنت نِعْم الخلفُ لخير سلفٍ , ولكن المشكلةَ تكمُن في مَن يفتخر في كل مجلس بأبيه وجده , وهو بعيد كلَّ البعد عن نهج أبيه ونهج جده...

 

وجميعنا نحفظُ بيت ابن الوردي في لاميّته المشهورة عندما يقول :

 

لا تقلْ :    أصلي وفصلي أبداً    

            إنما أصلُ الفتى ما قد حصل (1)

...ونحن لا ننكر طبعاً أن صلاحَ الآباء فيه صلاحٌ للأبناء , لأن المتأمّل في القرآن الكريم يرى أن الله تعالى حفظَ الأبناء لصلاح الأب, وذلك عندما قال في سورة الكهف : (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) . (2)

وجميعنا نعلم أن أفضل شيء يرثه الولدُ عن أبيه هو الصلاحُ والذكرُ الحسنُ, وأن على الولد الصالح أن يُحيِيَ فِعال أبيه , ويكونُ ذلك بأن يُتم الولدُ بناء صرح الأخلاق الحميدة الذي بدأ به أبوه , لأن هناك من قال :

 

إنَّمَا المـجـدُ ما بنَى والدُ الصِّدْ  

  قِ وأحيا فعـالَهُ الـمولُودُ

وهناك من الشعراء مَن قال في خلافهِ :

 

لئـنْ فخرتَ بآباءٍ ذوِي شرفٍ  

لقدْ صدقتَ , ولكنْ بئسَ ما وَلَدوا (3)

وقريبٌ منه كذلك قولُ بعضهم:

 

أبـوك أبٌ حرٌ , وأمـكَ حـرّةٌ   

 وقـد يلِدُ الحُرّان غـيرَ نـجيبِ

 

فالإنسان هو الذي يختار لنفسه , فإما أن يكون الأولَ فيتابعُ بناءَ مجد أبيه , وإما أن يكون الثانيَ فلا يبني لنفسه مجداً.. بل لعلّه يهدم بسوء فِعاله مجد أبيه الذي بناه في سنوات وسنواتٍ ! ....

وكثيراً ما يُطرح التساؤل التالي : , أيُّهما أهمُّ : أدبُ الرجل أم حسَبُه ؟ وهل الأدب يغني عن رفعة النسب والحسب  ؟ . أجاب بعضهم بالآتي :

(( الأدبُ كالحسب, قيل: من نَهَض به أدبُه , لم يقعد به حسبُهُ.

وقيل: شرفُ الحسب يحتاج إلى شرفِ الأدب ، وشرفُ الأدب مستغنٍ عن شرف الحسب.

 وقال الأحنف : من لم يكن له علمٌ ولا أدبٌ , لم يكن له حسبٌ ولا نسبٌ.

وقال شاعرٌ:

 

ما ضرَّ من حاز التأدُّبَ والنُّهى    

أن لا يكونَ من آل عبدِ مناف؟ (4)

وكذلك قال الشاعر :

 

 كنِ ابنَ مَن شئت واتَّخذْ أدبـاً   

 يغـنيكَ مـحمودُه عن النَّسب

 

                                      إنّ الفتـى من يقول : ها أنا ذا  

                                    ليس الفتى من يقولُ: كان أبي (5)

 

والإنسانُ العاقل اللبيب حتى وإن كرُم حسبُهُ وطابت أرُومتُهُ , فإنه لا يتّكل على أحسابه , ولا يعتمد على أنسابه , بل عليه أن يُكَوِّنَ لنفسه شخصيةً فاعلة مؤثرةً في المجتمع ,  ومن جميل الشعر في هذا المعنى قولُ عبدِ اللّه بن معُاويةَ بنِ عبد اللّه بن جعفر :

       لَسْنا وإنْ أحسابُنا كـرُمت  

     يـوماً على الأحسابِ نَتَّكِلُ

      نَبْني كمـا كـانت أوائلُنا

     تَبْـني ونَفْعَـلُ مِثْل ما فَعَلوا (6)

 

وعلى الإنسان العاقل أيضاً أن يكون عصاميّاً لا عظاميّاً ,فهناك فرقٌ كبير بين العصامي والعظامي , فالعظامي : يفتخرُ بعظامٍ لآبائه وأجداده ربّما تكون قد نَخِرت ,والعصاميُّ : من يبني نفسَه بنفسه...

 و((العِصامي : منسوبٌ إلى عصام بن شهير , حاجبِ النعمان بنِ المنذر الذي قال له النابغةُ الذبيانيُّ حين حجبه عن عيادة النعمان من قصيدةٍ له :

 

فإني لا ألومك في دخولٍ

  ولكن , ما وراءَكَ يا عصام ؟

 

فكبيرُ الهمة عصاميٌّ يبني مجده بشرف نفسه , لا اتّكالاً على حسبه ونسبه , ولا يضيرُه أن يكون ذا نسبٍ , فحسبُه هِمّتُهُ شرفاً ونسباً ) (7)

 

ولذلك ((كان بعض العلماء إذا سألَ عن أحدٍ قال: أعصاميّ هو أم عظاميّ؟ أي أهو ممن يفخر بآبائه وسلفه وبِمَن قد مضى من أهله، وهو خالٍ مما كانوا فيه، أم هو بنفسه ؟، كما قال الشاعر:

نفسُ عصامٍ سوّدتْ عصاما ... وعلّمته الكَرَّ والإقداما ....  وجعلْته مَلِكا هُماما (8)

 

فالسؤدَدُ والمجدُ لا يكونان بالوراثة , إنما بالفِعال الحميدة , والأخلاق النبيلة , بل إن بعض أصحاب النفوس العظيمة يأبَون أن يكون سموُّهم إرثاً ورثوه عن أب أو أم كما قال عامر بن الطفيل الجعفريُّ:

 

فإنـي وإن كنتُ ابنَ سيدِ عامرٍ   

  وفارِسها المشهورِ في كل موكِبِ

                                                                                                                        فما سـوَّدتـني عامرٌ عن وِراثة   

                                                                                                                      أبـى اللهُ أن أسـمو بأمٍّ ولا أبِ (9)

 

وهنا نتذكر شخصيةَ المتنبي فإنها تتميز بهذه الْمِيْزة , والمتنبي هو المشهور بتفاخره ونزعته إلى السيادة , فهو يأنف من أخيه إذا كان غيرَ كريم وماجد , ولا يرضى بأن يُنسب الفضلُ إليه إكراماً لجده ,لذلك يقول :     

            

                                          وآنَفُ مـن أخي لأبي وأمّي

                                           إذا ما لم أجدْه من الكرام

                                          ولست بقانعٍ من كلّ فضلٍ  

                                        بأن أُعـزَى إلى جدٍّ هُمام (10)

ويقول أيضا ً :

أرى الأجْدادَ يغلِبُهـا كـثـيرٌ  

علـى الأولادِ أخـلاقُ اللئامِ (11)

 

وأفضلُ نسب على الإطلاق ـ ويحق لصاحبه أن يفتخر به ويعتزَّ ـ هو النسبُ النبوي , ومع ذلك أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُعلم البشرية جمعاء أن عمل المرء هو الأساسُ يوم الحساب , وليست الأنسابُ والألقاب , لذلك لَمَّا نَزَلَتْ آيةُ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الصَّفَا فَقَالَ : (( يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ : يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ : لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا , سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ)) . (12)

 

وكذلك يومَ القيامة لا أنسابَ بين الناس إلا نسبُ الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى :

 (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ *فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) . (13)

 

وختاماً : الإنسانُ بنفسه وبأخلاقه ومآثره , وليس بآبائه وأجداده , فكثيرٌ من الناس يعيشون مترنَّمين بأناشيد الماضي , حالِمين على أطلال أمجاد آبائهم وأجدادهم , ولكنهم ما قدّموا شيئاً يُذكَرُ ....

 وفي المقابل فإن كثيراً من الناس يموتون ,ويفارقون الدنيا بأجسادهم فقط , أما ذكرُهُم فيظلُّ مرفوعاً يُحاكي سماءَ الفضيلة والسموِّ ...

فارفع لنفسك بعدَ موتِكَ ذكرَها   

        فالـذكـر للإنسـان عمرٌ ثانِ (14)

                                                                     

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــ

(1) ـ الكشكول , البهاء العاملي حـ  : 1 , ص :113

(2) ـ الكهف (82)

(3) ـ كتاب الصناعتين: أبو هلال العسكري جـ :1 ص : 32

(4) ـ محاضرات الأدباء : الراغب الأصفهاني جـ :1 ص : 8

(5) ـ غرر الخصائص الواضحة : الوطواط جـ :1 ص : 74

(6) ـ آداب العلماء والمتعلمين : الحسين ابن المنصور اليمني جـ 1 ص :125

(7) ـ علو الهمة : محمد أحمد إسماعيل المقدم , المكتبة التوفيقية , ص :91

(8) ـ الفاضل المبرد جـ : 1 ص : 3

(9) ـ العمدة في محاسن الشعر وآدابه: ابن رشيق القيرواني جـ : 1 ص: 159

(10) ـ معجز أحمد : أبو العلاء المعري جـ :1 ص:400

(11) ـ الوساطة بين المتنبي وخصومه :  الجرجاني جـ :1 ص : 95

(12) ـ  صحيح مسلم

(13) ـ  المؤمنون: 101 ـ 103

(14) ـ جواهر الأدب , أحمد الهاشمي جـ :2 ص : 9

 

 

2012-06-13
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
مساهمات أخرى للكاتب
المزيد