"كيف سأكتبها؟ كيف كيف كيف؟"
نظرت لبقع الحبر التي رسمها قلمي على الأوراق المكدسة أمامي أثناء شرودي علّي أجد في أشكالها شيئا ما.
شعرت بشيء ما يطوف في تلافيف رأسي وكان علي أن أغوص في عمق هذا الشيء. شيء ما يطير في سماء تفكيري ولكنني لا استطيع أن امسك به, لزج ولكنه في نفس الوقت يتمتع بسيولة تفوق سيولة الماء.
التصق برأسي ولكنه يسيل من يدي كما تسيل المياه. يختفي كما يختفي خيال لشيء جميل ومضيء. وضعت أصابعي الوسطى على صدغيّ رأسي وبدأت أدلكهما بقوة وببطء وأنا أعتصر ما في ذهني من أفكار وهواجس وهلوسات. أغمضت عيني بشدة حتى ضُمرا في وجهي. ثم هدأت للحظات وأنا أستشعر بنبضات الوريد تحت إصبعي. فتحت عيني فجأة وحدقت في الكلمات المكتوبة أمامي. لم أر بهم أي شيء. كانت نظراتي اضعف من أن ترى ما يختبئ تحت تلك الكلمات. أضعف من أن تستحضر ما يوجد وراء تلك الأحرف المرسومة أمامي. أمسكت بقلمي من جديد بحركة مترددة وخائفة خوف من يكتب شهادة وفاته_خوف من يوقع على شهادة وفاته.
"لم يكن باستطاعتها أن_ _"
وضعت القلم على هذه الكلمات, وبدأت أحرك القلم فوقها حتى فتت الحبر مكانها. رميت القلم على الورق وتركت كرسيي وطاولتي ووقفت أمام نافذة غرفتي, نافذة مفتوحة على مصراعيها. وسرعان ما أصبحت أصوات الأطفال الذين يلعبون هناك على مسافة من منزلي أقوى وأكثر صخبا. تمتزج مع حركاتهم وتنقلاتهم وركضهم خلف تلك الكرة. يالى براءة الأطفال يوهمونهم أنهم هم من يلعبون بالكرة ويخفون عنهم أنها هي من تحدد وجهتهم.
نسمات الهواء تداعب مسامعي وهي تداعب أوراق الأشجار المحيطة بالمنزل. ولكن لم استطع تجاهل تلك الأصوات وهي تتعالى أكثر وأكثر وتمتزج بالأجراس والطبول التي تضرب في راسي فتوجهت للنافذة الأخرى من غرفتي. ولم يكن لنسمات الهواء إلا أن تحمل إلي أصوات هؤلاء الأطفال ولكن بصخب اقل. نظرت لما تطل عليه تلك النافذة وسرعان ما بدأت تلك الأصوات تتلاشى من ذهني وحل محلها تأمل متأني لخَضار الخُضار المتناثر أمام عيني. نظرت لتلك الخطوط المزروعة التي تنتهي بدوائر مهندسة ينتصفها أنواع مختلفة من النباتات. ابتسمت مرة أخرى وعدت لقلمي وأوراقي. جلست وتنهدت بعمق وصفاء لا يعكره إلا الخوف مما هو عالق في ذهني.
"أمسَكْت بالقلم وبدأت أرسم _ _"
ولكن لم أجد نفسي إلا والقلم مرمي من جديد على الورق. لم امح ما كتبت ولكن أصبح لدي رغبة عارمة بصب بركان غضبي على تلك الورقة. أردت أن أكبلها بيدي وأن ارميها في مكان ما_ أن ادفنها في مكان ما بعيدا عن ناظري. شعرت بالإرهاق وأسندت رأسي إلى الوراء على الكرسي وبدأت أتأمل سقف غرفتي. شردت عيوني بما فوق ذاك السقف. وبدأت أتخيل أشكال الغيوم التي تعبر سماء الصيف, شهبها, نيازكها, وأقمارها. سألت نفسي كم شهابا يضيء هذه السماء كل يوم؟ ولكن لم تضئ سمائي أي فكرة. أخذتني عيوني من سماء سقف غرفتي إلى تلك الورقة ثم منها إلى تلك النافذة. ولم أجد نفسي إلا وأنا أصرخ "كيف سأكتبها؟ كيف كيف ؟ "