قصة قصيرة سأرويها لكم أبنائي وأحفادي. بلغتُ من العمر عتياً ولا أستطيع أن أدعها تتعب رأسي وأرغب أن أريحه قبل الرحيل. لا تحزنوا فأنا لا أريد استدرار عطفكم بل أريد أن أتركها أمانة في رؤوسكم احتراماً لذاكرة التاريخ.
كنت طفلاً عندما أجبروا والدي على هجر داره حفاظاً على حياته، وكنت شاباً عندما طلبوا مني هجر داري حفاظاً على حياة عائلتي. لن أقول لكم لماذا وكيف حصل هذا، فالذين ما زالوا على قيد الحياة من ذاك الزمان يعرفون الجواب، بل سأتحدث عن داري التي هجّروني منها في شيخوختي وأنا أعرف كيف حصل الأمر، ولكني لا أعرف لماذا، فهل أنتم تعرفون؟
صحوت صباح الأول من شباط العام الثاني عشر بعد الألفين على أصوات إطلاق نار وانفجار
قنابل وتفجيرات. لم يخفني هذا فقد اعتدنا على سماعه في الأشهر الماضية، إلا أن ما
أخافني هو أصوات ألفاظ وثرثرة تتصاعد من أعماق الصمت وقرقعات أقدام تدوس كل شيء.
نظرت من باب غرفة نومي فرأيت أناساً دخلوا داري، استباحوا حرمة بيتي، يتبادلون
الكلام ولا يسمع بعضهم بعضاً،فلكل منهم هدف وغاية وله مسار وطريق. كل ما في بيتي
مباح لهم. لن أتحدث عن أهدافهم وغاياتهم ومساراتهم ففهمكم كفاية. إلا أنني نظرت إلى
ذاتي إلى بيتي فوجدت كل شيء ليس هو. سألت هل هذا أنا؟ هل هذه داري؟ هل فارقت الحياة
ودفنت في قبر مليء بالجان؟
شددت أذني وصفعت جبيني بكامل كفي فوجدتني حقيقة في داري، فهل هؤلاء ضيوفي؟ قد يكونون أصدقائي، رفاقي، جيراني، وقد يكونون عشاقي يريدون أن يمارسوا غرامياتهم بطريقة درامية. كنا نمارس مثلها كثيراً. نظرت ملياً إلى وجوههم فلم يكن لهم وجوه، أحسست أنني غريب في داري، فهؤلاء المدججون بالسلاح الفاقدون الملامح الإنسانية لا أعرف أحداً منهم، ولم أكن أعرفهم سابقاً، فهل جاؤوا من عالم آخر؟ بكلام غير مفهوم أخرجوني من داري مرمياً على الرصيف قبل أن أنهي ارتداء كامل ملابسي.
نظرت إلى داري. نظرت إلى السماء، فلم أرَ قمراً ولا نجوماً ولا شمساً. كانت خيوط
الصباح مقطعة الأوصال. تذكرت طفولتي، تذكرت شبابي، صرخت بأعلى صوتي، فكان رجع الصدى
أقوى. شققت طريقي عبر الشوارع غير الآمنة وضباب الأزمة، ضباب المحنة يغطي وجه
المدينة لا بل يغطي سماء بلدي يحجب وجه سورية، والأصوات الحزينة تعذبني، تدق رأسي
بمطارقها، تتهاوى كحمم تتساقط من ثورة بركان يفور في داخلي، يحرقني. فهل كنت ألتهب
ولا أحترق؟ هل كنت أغوص في اللجة ولا أعرف؟ هل كانت أنياب الغدر تفترسني ولا أموت؟
هل أعيش الزمن الرديء لأرى في شيخوختي هذه العجائب والغرائب؟ لقد قتلوني باسمي،
ودمروا داري باسم حمايتها، واعتقلوا حريتي باسم الحرية، ومارسوا الظلم باسم
العدالة، وانتهكوا الكرامة باسم الكرامة. فهل انتهى زمن الحكمة ومات الحكماء؟ هل
انتهى زمن القداسة ومات الإله ومعه الحب والحق والحياة؟ مساكين نحن، ومسكينة هي
سورية. مسكينة الحرية والعدالة والكرامة، لقد قنصوهن بشباك الكذب والخداع والكراهية
والبغضاء، ونصبوا أنفسهم الناطقين باسمنا، فعجزوا عن التعبير عما يختلج في أذهاننا
وعما نريد.
أفترض أنكم تسألون أين أنا الآن؟ أجيب صادقاً أنني لا أعرف، ولكنني أرجو أن تكونوا
أنتم تعرفون أين أنتم! هل خرجتم من حالة السكون ومنطق المنع والتحريم والإقصاء
والتبرير؟ هل دخلتم مرحلة الحركة ومنطق النقد البناء وإبداع الفكر الخلاق؟ هل
اعتنقتم مبادئ الحق والعدل والمساواة وقبول الآخر والعيش المشترك معه؟ فإذا كان
الجواب نعم، عندئذ سأعرف حقاً أين أنا الآن، ولن يهجر أحد داره مرة أخرى!