لأنه لا يوجد كبير سوى الجمل على رأي أحد أصحاب المحلات التجارية الموجودة في دوما
التابعة لمحافظة ريف دمشق، فإن راحة قاطني الجوار هي آخر ما يهم بعضهم، فالمحل فتح
لكي يكون باب رزق، ولن يسمح صاحبه لأي سبب كان أن يقلل من دخله اليومي والذي يسعى
دائماً لتحسينه ولو على حساب الآخرين.
إقلاق راحة:
إن كلمة إقلاق الراحة هي ترجمة لفعل يحصل كل صباح، وأي صباح
(ذلك الذي يبدأ مباشرة بعد شروق الشمس)، ألا وهو رفع ذلك الغلق الذي لم يزيت منذ
سنون، والمميز في الأمر أن صوته لا يزعج سكان البناء والبناء المجاور فحسب، لأن
الأمر يتوقف على مزاجية الشخص الذي جاء لفتح ذلك المحل، فإذا كان متحمساً سيمسك
بذلك الغلق المعدني ويرفعه بقوة حتى يصل إلى السقف ويصطدم بحافته، وذلك سيكون
زلزالاً بالنسبة للنائم في نفس البناء أو في الأبنية المجاورة، أما إذا كان يائساً
فقد يستعمل أسلوب الرفس والضرب وأحياناً الشتم، ليرفع ذلك الغلق الذي يأبى أن يرتفع
بوزنه الثقيل وكأنه سيفهم إذا ما نال نصيبه من غضب ذلك الشخص.
الأهم من ذلك أنك إذا لم تستيقظ بعد تلك الأشياء، فصوت فيروز
الذي سيصدح به الستريو الموجود في المحل سيتكفل بالأمر، وكي لا نظلم فيروز فإن لكل
منهم مزاجه الخاص، فمنهم من يحب أن (يتصبح) بالأغاني اللبنانية القديمة، ومنهم من
يحب أن يستمع إلى فيروز، أو إلى تراتيل معينة، أو ربما (يتصبح بهيفاء وهبي) وكل ذلك
على حساب الجيران.
مصلحة المحل أولاً وأخيراً:
لأن الكهرباء في المناطق الريفية كثيرة الانقطاع، فإن معظم
أصحاب المحلات جهزوا محلاتهم بمولدات كهربائية كبيرة تعمل على المازوت، وما أجمل
ذلك الصباح الذي ستستيقظ فيه على صوتٍ إذا لم تعتد عليه فإنك ستدعو الله ليلاً
ونهاراً كي لا تسمعه ولكن دون جدوى، فما أن تنقطع الكهرباء، ستعمل المولدات، وما أن
تعمل المولدات، فإنك لن تبقى في فراشك وستقصد أبعد زاوية في منزلك لتحاول أن تكمل
ولو لدقائق نومك الذي هرب بعيداً وكأنك في معركة كثر فيها إطلاق الرصاص!
الشكاوي لا تنفع، وسياسة الوجه البشوش لا تنفع إطلاقاً، وليس
هناك أي حل، كن متأكداً بأنك ستسمع صوتها في أي وقت تنقطع فيه الكهرباء ولكن كي لا
نكون من الظالمين، سنذكر بأن الساعة الوحيدة المستثناة من هذا الحديث هي الساعة
الثالثة صباحاً، ولكن ليس على سواد عينيك، إنما لأن عناصر المخفر قد تسمع صوتها
وتشعر بإيذائها، وبالتالي قد تأخذ عليه تعهداً بألا يشغلها ويشكل إقلاق راحة
للجوار، علماً بأنه سيدفع ما فوقه وما تحته لكي يلغي ذلك التعهد، وينتظر حتى تنقطع
الكهرباء، ليشغلها من جديد.
يا رزاق يا كريم:
معظم الدكاكين والمحلات التجارية تفتح مابين الثامنة والعاشرة
صباحاً، ولكل مزاياه وطرقه الخاصة للإزعاج، فالحداد والنجار ومعلم الألمنيوم،
سيطرقون وينشرون وكأنك تشاهد مسرحية مدرسة المشاغبين! أما بائع الخضار، لن يترك
نوعاً من الخضار أو الفاكهة دون أن ينادي لبيعه، وسيعيد الجملة أكثر من مرة، وإذا
سكت قليلاً فذلك يعني أن أحد الزبائن، دنا من دكانه وبدأ بالتبضع، محلات التسجيلات
ستكتفي بوضع البفلات خارج باب المحل لتطرب آذانك بآخر صرعات القرن الحادي والعشرين،
كذلك الحال بالنسبة لبعض بائعي الجوالات والألبسة والأحذية وذلك لمجرد لفت النظر،
والشجارات الصباحية تؤكد بأنك تقطن بجانب أحد أفران الخبز والذي قام بدوره بتنظيم
دور للزبائن لم يستطع أحدهم احتمال الانتظار، أما أكثرهم إزعاجاً فهو ذلك الذي وضع
كاسيتاً ينادي على الزبائن ويصدح بنداءاته التي تتمثل بـ (حيلا غرض بخمسو عشرين –
حيلا قطعة بعشر ليرات.. إلخ)، وسيزيد الطين بله أن يأتي بائع متجول، وينادي على
بضائعه في ذلك الحي المرزوق، أو يأتي بائع الغاز الذي لم يجد طريقة أفضل من الطرق
على جرات الغاز، وكأنهم جميعاً اتفقوا على تخرج من بيتك وأنت في حالة يرثى لها،
وعلى وجهك علامات تؤكد لزملائك أنك كنت بالأمس سهراناً مع أصدقائك على لعبة ورق
خرجت خاسراً منها نظراً لنفسيتك المحطمة.
اشتهيت الأذاذ:
إذا كنت جائعاً ومررت من جانب أحد المطاعم الشعبية، فرائحة
منتجاته كفيلة بأن تدعوك إلى وليمةٍ تنهي شعورك بالجوع، وستختار بالتأكيد ما تشتهيه
نفسك ولن تكون مجبراً على تناول وجبة معينة، ولكن ماذا إذا كنت تسكن في شارع اجتمع
فيه كل من بائعي الفلافل، الشاورما، المعجنات، الفروج بأنواعه، السمك، اللحوم
والحلويات؟ ما سيحدث هو أنك ستعاني الأمرين وستتمنى لو أنك تستطيع أن تفقد حاسة
الشم التي ستكون عبئاً عليك، لأن الأمر لن يقتصر على رائحة ستعشش في أساس منزلك منذ
السابعة صباحاً وحتى الثالثة ليلاً، بل ستتعايش مع جميع أنواع الأدخنة المؤذية
وستكون عرضة لعدة أمراض وعلى رأسها سرطان الرئة! وكل ذلك لأن صاحب ذلك المطعم وفر
على نفسه العناء بوضع مدخنة صحية وشفاط كهربائي لسحب الأدخنة التي تصدر عن محله،
والذي من المفروض أساساً ألا يكون موجوداً في أمكنة السكن نظراً للخطر المحدق
بالسكان، (واللي إلو عمر ما بتهينو شدة).
وعلى عينك يا تاجر:
ما سبق يتعلق بإزعاجات السمع والشم، فماذا عن البصر؟
تختلف الأذواق بين شخص وآخر، ولكل طريقته الخاصة فيما يتعلق
بشكل المحل التجاري، ولكن ذلك سيجعل الأمر كما لو أنك تعيش لوحة سوريالية اختلط
فيها الحابل مع النابل، وسيندر أن ترى منظراً جميلاً يتعلق بمحلين متجاورين!
فالجارين حتماً سيختلفان بالمهنة وذلك ما سيجعل المنظر متعارضاً بالنسبة للواجهة
واللافتة والرصيف.
أما الكارثة التي تجعل من المنظر أكثر قبحاً، فهي ما حلله أصحاب
المحلات على أنفسهم! لأن معظم المحلات التجارية و(على عينك يا تاجر) صادروا الرصيف
المجاور لمحلهم، وحولوه إلى ملك خاص، فمنهم من وضع واجهة زجاجية تؤكد بأنه المالك
الوحيد لذلك الرصيف، ومنهم من وضع غلقاً معدنياً نظراً لكونه تعب من إخراج وإدخال
بضائعه التي تشغل الرصيف بشكل كامل، والمضحك بالأمر أنهم يؤكدون بأنهم يملكون
تراخيص تسمح لهم باستملاك الرصيف الذي هو أساساً ملك عام ولا يحق لأحد أن يبيعه أو
يمنحه لأحد.
ما في نوم بعد اليوم:
نظراً للمزاجية التي تتعلق بتوقيت فتح المحل، فهناك معادلة
بسيطة بالنسبة لإغلاق المحل، فالريف لا يهتم بموضوع راحة السكان، وأصحاب المحلات
يستفيدون من ذلك، ومعظمهم يبقي باب رزقه مفتوحاً على مصراعيه وحتى ساعة متأخرة،
وصاحب المحل أو الأجير الذي يعمل فيه، لا يميز بين ساعة أو أخرى، وحتى لو كانت
الساعة الثانية أو الثالثة صباحاً، لن تتغير الطريقة، وسينزل غلق الدكان بطريقة
مزعجة، ولن يفوت على نفسه متعة إزعاج الآخرين، ثم سيركب على دراجته النارية ويبدأ
بتدوير محركها والإقلاع، مصدراً ذلك الصوت الذي سيتكفل بإزعاجك، في حال لم تكن
منزعجاً أصلاً.
ترخيص تجاري:
كيف تنظر لشخص أراد مثلاً أن يؤسس مستقبله وأن يفتح ورشة صغيرة
أو مشغلاً صغيراً لكي يكون باب رزقه؟
بالتأكيد يستحق الإعجاب.
ولكن ماذا لو فتح ذلك المشغل في الشقة المجاورة لشقتك؟
ليست مشكلة أيضاً.
ماذا لو أراد أن يفتح ذلك المشغل على مدار الـ 24 ساعة؟
الله يرزقو ويفتحا بوشو..
المشكلة تتوقف على نوع العمل فمثلاً لو تعلق ذلك المشغل
بالألبسة والخياطة، فإن مكناته ستكون عبئاً ثقيلاً ولن تستطيع تحمل صوتها، عدا عن
كونها ستحمل الشبكة الكهربائية عبئاً سيضر بك، ثم أنها ستستقبل الزبائن وسترمي
أوساخها جانب بيتك، فكيف ستتحمل ذلك؟ وقد تزعجك الروائح التي تصدر من بعض المشاغل،
كمشاغل الأحذية والحقائب، ما يصب في نفس الخانة وهي راحتك أولاً وأخيراً، الأمر
الغريب هو أنك تجد الكثير من المشاغل في الأبنية السكنية، ومعظمها لا يملك ترخيصاً
تجارياً ويستهتر تماماً براحة قاطني الجوار، وحتى لو كان يملك ذلك الترخيص فلا
أعتقد أنه يجب أن يملك مثل هذا المشغل في بناء سكني ابتاع سكانه بيوتهم بحثاً عن
الراحة.
صورة وهمية:
ربما علينا التعايش والتكيف مع جو الريف الصاخب، رغم أن المدرسة
الابتدائية كانت تصر على أن جو الريف هادئ ونظيف، وأن ماء الريف أعذب من ماء
المدينة، وأن أهل الريف أناس طيبون ويغارون على بعضهم البعض، ولكن هل علينا أن
نتكيف مع محيط يريد وبإصرار أن يؤذينا ويؤذي أطفالنا بشتى الوسائل؟.