ليست قبّة الصخرة أو المسجد الأقصى أو كنيسة القيامة ما يجعلني أنتمي إلى فلسطينَ أو أُجفّف من انتمائي إليها. إنَّ الدفاعَ عن قضيّة فلسطين قد سقطَ في وجدان العالم العربيّ وأصحاب نظريّة (الأمة الإسلامية) عندما اختُزِلَت بصورة المسجد الأقصى. ولو أنّها اختُزِلَت أيضا بصورةٍ لكنيسةِ القيامة لقُلتُ التصريح ذاته. لقد بعثَ لي أكثر من صديقٍ رسالةً لأجعلها "صورة البروفايل" عبر موقع فايس بوك، وما جعلتها ولن أفعل! إنَّ فلسطين ليست قضيّةً دينيّةً ولا يجب أنْ تُختَصَرَ في رمزٍ مُقدّسٍ عند مُعتنقي أيّ دينٍ مُعيّن! إنَّ كلّ فلسطين قد وقعت تحتَ الظُّلمِ منذُ النكبة الكُبرى عام 1948 وقيام كيان المُغتصبات اليهوديّة على أرضها، وليست قضيّتها دينيّة لتخصّ المسلمين (قبّة الصخرة، والمسجد الأقصى)، ولا المسيحيّين (كنيسة القيامة)، إنّما قضيّة حقٍّ وحقيقةٍ واحدة: قضيّة احتلالٍ يهوديّ، وطرد شعبٍ بكاملهِ من أرضه وإحلال آخر مكانه، وما زوال الاحتلال إلّا تبدّدٌ أكيدٌ أكيدٌ أكيد مهما طال أمده وتغطرسَ وتمدّد. ونحن سنبقى نُردّد: "...وليس لنا من عدوٍّ يُقاتلنا في ديننا وأرضنا وحقّنا إلّا اليهود"
لا بدَّ لي من التأكيد على أنَّ فلسطينَ هي
قضيّةٌ قوميّةٌ شاملةٌ في الصميم ولا تخصُّ حزباً أو مُنظّمةً أو جمعيّةً أو أيّة
عائلةٍ إقطاعيّةٍ أو نظام حكمٍ قائم. لذلك فإنَّ عمليّة تحريرها يجبَ أن تكونَ
شاملةً ذات مناحٍ وطنيّةٍ قوميّة. إنَّ الميثاقَ الوطنيّ الفلسطينيّ الذي أُقرَّ
عام 1968 هو خطّةُ إستراتيجيّةٌ شاملةٌ ووافية. حبّذا لو أنَّ منظّمة التحرير
الفلسطينيّة تُعلنُ انسحابها من خيارِ المفاوضات مع كيانِ الاحتلال وتعودُ على
اجماع الفلسطيّنيين كافّةً ودون أيّةٍ مُعارَضةٍ على خيار الصِّراع. هذا العدوُّ لا
يعرفُ غير القوّة. إنَّ الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ الذي صدرَ هو برنامجٌ ذات منحى
إستراتيجيّ لنضالِ الشعب لتحرير كلّ فلسطين.
وفي سياقِ حربِ الوجود، فإنَّ الانتماءَ إلى فلسطينَ والارتباطَ المادّي والروحيّ
والتاريخيّ بها هي حقائقٌ ثابتة، وإنَّ التنشئةَ الوطنيّة للأفرادِ لا بدَّ وأن
تكونَ ثوريّة نهضويّة تتّخذُ كافّة وسائل التوعية والتثقيف والتعريف للأبناء بوطنهم
وبلادهم تعريفاً روحيّاً ومادّياً عميقاً، تُؤهّلهم للمعرفة وتُكسِبهم حقّ الخيار
للنضال والتضحية لاستردادِ الوطن السليب حتّى التحرير، وذلك يُعدُّ واجباً قوميّاً
لا التباسَ عليه.
إنَّ نهضةَ البلاد تقتضي نضالاً حقيقيّاً وأساسيّاً في الثقافةِ والدبلوماسيّة
والعسكر والكفاح المسلّح. كلّ ذلك يتأتّى من ضمن خطّةٍ وطنيّةٍ وقوميّةٍ شاملةٍ
لمناحي الصِّراع حتّى نسلك الطريقَ الوحيدَ لتحريرِ فلسطين. ولا يسعني إلّا أنْ
أستذكرَ قولا للمفكّر أنطون سعادة يقول: "إنَّ القوّةَ هي القولُ الفصل في إثباتِ
الحقّ القوميّ أو إنكاره". وفي كلِّ تلك القوّة القائمة على مجتمعِ المعرفة تتشكّل
الإستراتيجيّة، ولا يكون التكتيك بالتخلّي عن أيٍّ من أدواتِها في سياق المواجهة
وخياراتها، وإنْ حصلَ فسيكونُ هديةً ثمينةً لعدوٍّ مُدجَّجٍ بكافّةِ أنواعِ
المكينات الإعلاميّة والثقافيّة والعسكريّة والدبلوماسيّة وغيرها.
إنَّ تحريرَ فلسطين هو واجبُ العالم العربيّ أجمع. وهو واجبٌ سوريٌّ قوميٌّ بالدرجة
الأولى نظراً لتوهّج الصِّراع على أرض الهلال الخصيب في مواجهةِ حلم "إسرائيل
الكبرى. كذلك تقعُ مسؤوليّاته كاملةً على العالم العربيّ شعوباً وحكومات، وعلى
الجامعة العربيّة التي أَفلسَت وغَرِقَت في موتها وشخيرها المُتنامي. ومن أجل ذلك،
فإنَّ على العالم العربيّ أنْ يُعبّئ جميعَ طاقاتهِ العسكريّة والبشريّة والماديّة
والروحيّة للمساهمةِ بفعاليّةٍ في دفع قضيّة فلسطين لتبقى صراعاً حيّاً يقوم على
مفاهيم العدل، وأن تبذل وتقدّم للشعب الفلسطينيّ كلّ العون وكلّ التأييد المادّي
والبشري، وتوفّر له كلّ الوسائل والفرص الكفيلة بتمكينه من الاستمرار للقيام بدوره
الطليعيّ في متابعةِ مسيرته حتّى التحرّر والتحرير.
إنَّ الشخصيّةَ الفلسطينيّةَ صفةٌ أصيلةٌ لازمةٌ لا تزول، وهي تنتقلُ من الآباء إلى
الأبناء. وإنَّ الاحتلالَ الصهيونيّ، وتشتيت الشعب الفلسطينيّ نتيجة النكبات التي
حلّت به لا يُفقدانه شخصيّته وانتماءه الفلسطينيّ ولا ينفيانهما. وعلينا جميعاً، إنْ
أردنا أنْ نُقيمَ دولتنا الفلسطينيّة على أُسسِ العدل، أنْ نعتبر باطلاً كلّ من
تصريحِ بلفور، وصكّ الانتداب، وإعلان كيان العدوّ الإسرائيليّ قيامَ "الدولة 1948"
وما ترتّب عليهم، واعتبار دعوى الترابط التاريخيّة والروحيّة بين اليهود وفلسطين لا
تتّفقَ مع حقائق التاريخ، ولا مع أيٍّ من مُقوّمات نشوء الدول في مفهومها الصحيح،
واعتبار أن اليهوديّة – وإن اعتُبِرَت بنظرِ بعض المُتمذهبين "ديناً سماوياً"– ولا
أتّفق شخصيّاً مع ذلك، فهي ليست قوميّة ذات وجودٍ مستقلٍّ تام، وكذلك فإنَّ اليهود
ليسوا شعباً واحداً تامّاً له شخصيّته المستقلّة، وإنّما هُم مواطنون في الدول التي
ينتمون إليها في كلِّ أصقاع العالم.
أمّا لكلِّ الذين أرادوا أنْ يُميّزوا بين الصهيونيّة واليهوديّة، فإنّي أعترفُ أن
منحني الله صورته ومثاله في عقلٍ أخذني لخُلاصة أنَّ الصهيونيّة هي بنتُ التوراة
اليهوديّة، وهي حركةٌ تلموديّة ذات مفاعيل سياسيّة وإجراميّة، وأنَّ لُوبيّاتها
السياسيّة وأخلاقيّاتها مرتبطةٌ ارتباطاً عضويّاً بالإمبرياليّة العالميّة، وهي
مُعاديةٌ لجميع حركات التحرِّر والتقدّم في العالم، وهي حركةٌ عنصريّةٌ تعصبيّةٌ في
تكوينها ومنطلقاتِها، وعدوانيّة توسعيّة استيطانيّة في أهدافها، وفاشيّة نازيّة
كاملة في وسائلها، وإنَّ كيان الاحتلالِ الإسرائيليّ هو أداةُ الحركةِ الصهيونيّة -
اليهوديّة، وقاعدتها البشريّة الجغرافيّة نحو الإمبرياليّة العالميّة، ونقطةُ
ارتكازٍ ووثوبٍ علينا جميعاً في قلبِ أرض العالم العربيّ.
إنَّ العديد من قراراتِ الشرعيّة الدوليّة تعتبرُ وجود وتشكّل "إسرائيل" احتلالاً
لأراضي فلسطين ومنها ما يتعلّق بشأنِ القُدس، ومن أهمّها قرار مجلس الأمن الدوليّ
رقم 242 لعام 1967 الذي نصَّ على الانسحاب من الأراضي التي احتلّتها "إسرائيل" في
عام 1967 ومن ضمنها القدس، والقرار رقم 478 لعام 1980 بشأن رفض قرار الحكومة
الإسرائيليّة بضمِّ القدس واعتبارها عاصمةً أبديّةً لدولةِ "إسرائيل"، وقرار مجلس
الأمن رقم 2334 لعام 2016 بشأنِ عدمِ اعتراف مجلس الأمن الدوليّ بأيّ تغييرات
تُجريها "إسرائيل" على حدود عام 1967 ومن ضمنها القدس. بالإضافةِ إلى الآلاف من
القرارات الصادرة عن الجمعيّة العامّة للأُمم المتّحدة بشأن القدس واحتلال الأراضي
الفلسطينيّة. العبرة في التنفيذ والتطبيق. ولكن حتّى تبقى القوّة هي القولُ الفصل
في حماية الحقِّ القوميّ لا بدَّ من تقديس مقاوماتنا وحمايتها ورعاية مشروعها حتى
تطبيق قرارات الشرعيّة الدوليّة وتصويب ميزانها في القضايا العادلة.
إنَّ فلسطين كلّها تحتَ الاحتلال، وما قرار دونالد ترامب في نقل سفارة الولايات
المتّحدة الأمريكيّة من مكانٍ إلى آخرَ سِوى رقصٍ حقيرٍ مُقتدرٍ بالسيفِ والخناجرِ
على العواطفِ العربيّة! ربّما هو الأخرق "ترامب" ينتظرُ الآن اتّصالاً هاتفيّاً من
نظرائِه (الأردنيّ عبدلله، أو العثمانيّ أردوغان، أو الوهابيّ محمّد بن سلمان، أو
المصريّ السيسي) ليعود عن قرارِ نقل السفارة، فنسجّل في سجلّ الحوكمة العربيّة
الانتصارات بين الشعوب المشغولة بالثوّار وبطّيخهم على هامش إنجازاتهم المُحقّقة في
الربيع العربي! خطوةُ الإعلانِ ليست إلّا أُلعوبة أُخرى على طريق تصفية القضيّة
الوطنيّة القوميّة.
إنَّ الغضبَ الشعبيّ الفلسطينيّ وفي العالم العربيّ بشكلٍ عام والاعتراض على إعلان
نقل السفارة وإلغاء "حلّ الدولتين" المزعوم بمعنى آخر لن يُغيّر شيئاً في المعادلة
الصِّراعيّة، ففي وجدان الجماهير من ضمن القراءة الجيو-إستراتيجيّة ستكونُ مُقامرةً
ومُغامرةً محسوبةً لأنَّ العالم العربيّ مشغولٌ في حِراكاتِه القَطريّة، والنُّخبُ
غائبةٌ عن لُوبيّاتٍ ضاغطةٍ تستطيع أنْ تُوصِل إلى نهاياتٍ عادلة. أمّا في القانون
الدوليّ فهو لصالحِ الفلسطيّنيين، وتجاوز ترامب وحلفاؤه في "إسرائيل" في خديعةِ
إعلان "القدس" عاصمةً أبديّةً هو واضح، وإنَّ الوقتَ لن يُضيّعَ الحقّ ولن يتغيّر
واقع القانون الدوليّ في التراكمات المتتالية من الخروقاتِ والتجاوزات التي يُراهن
عليها في تشكيلِ المزيد من الضغوطِ على القضيّة الفلسطينيّة. لم تَعُد تملك القضيّة
الفلسطينيّة الكثيرَ لتخسره من الأرض. ما بَقِيَ هو الوجدانُ الحيّ، والمُقاوَمة،
والمجتمع الذي تُشكّل بعض أحزابِ المُقاوَمة دِفاعاته، وبرأيي إنّها لن تحيدَ عنه.
وإنَّ التنصّل أيضا من اتّفاقات أُوسلو ومُتفرِّعاتها هو الحل، وإعادة الصِّراع مع
كيان الاحتلال إلى نقطة الصفر، وتأكيد أنَّ السلطةَ الفلسطينيّة تمثّلُ دولةً واحدةً
وشعباً واحداً لكاملِ فلسطين على أرضها الكاملة، وليتحمّل كلّ من العالمِ الحرّ ما
يراهُ مُناسِباً. إنَّ أرضَ فلسطين كلّها مُقدسٌ واحدٌ في عقيدة الشهيد أنطون سعادة.
وكلّ شيءٍ غير ذلك، كيسٌ مثقوبٌ في أحلامِ مَنْ يحملونَ قضيّتها زوّراً في النهار
وينامونَ في الليلِ مع القططِ الإسرائيليّة.