news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
مقالات
هذا هو أبي ... تعقيب على مقالة (آباء بيولوجيون)*... بقلم : إبراهيم مسك
syria-news image

تعوّدنا أن ننهي أعمالنا كل مساء لنلتقي في بيت "الوالد" أنا وإخوتي الأربعة ..وتزورنا أخواتنا البنات كل فترة

كنا دائماً نصل قبله بوقت طويل ..


فهو يخرج من البيت إلى صلاة الفجر كلَّ يوم ، ولا يعود إلا في ساعة متأخرة من الليل ..

فهنالك إمامة الناس في المسجد ، والدروس العلميّة المختلفة .. وهناك مشاكل الناس وخلافاتهم ..

والخلافات الزوجية .. وكذلك أفراح الناس أو تعزيتهم ..

 

وعيادة مَن مرض منهم ومواساته .. وإصلاحٌ بين إخوة متنازعين ، وردّ مظالم الذكور للإناث ..

إلى غير ذلك من الأمور الاجتماعية التي لم تترك لنا من أبينا إلا ساعة من النهار نقضيها معه ..

 

فيصل إلى البيت منهكاً ، ثم يوزّع علينا إيصالات وفواتير المياه والكهرباء والهاتف وغيرها ، والتي يدفعها بنفسه دائماً .. ويجلس يسامرنا ..

 

كثيراً ما كان يقطع علينا ساعتنا مع أبينا جرس الباب يدق معلناً عن وصول شريكين متنازعين ، أو زوجين متخاصمين ، أو حالة من الحالات التي استعصى على المحاكم والقضاة حلّها ، فيلجأ إليه أطراف النزاع ليخرجوا في آخر الليل وقد حلّ النزاع ، وصفت النفوس ، وهدأ القلوب ، وكثيراً ما يتوقف من بيتنا شلال دم جراء مشاكل الثأر التي تقع بين بعض العوائل أو العشائر في القرى ..

 

*- كان أبي يخصني بأشياء كثيرة ..

أهمّها أنه إذا أتى إلى المنزل بادر إلى النداء وهو عند الباب : ((إني لأجد ريح يوسف)) ..!!!

وابتسامته العريضة تملأ وجهه معلناً أنه علم أني في البيت ..

 

أبادر إليه فور سماعي النداء ، لأنه نداء خاص بي .. فأحمل عنه الحاجيات.. وأقبّل يده الدافئة دائماً .. وأحمل عنه جبّته .. وعمامته البيضاء الناصعة ..

يجلس إلينا ..

 

يسأل عن أحوالِنا .. يستفسر عن آخر قضايانا التي قد نكون نسيناها ، أو أهملناها ..

وعندما يجد قضيةً ما، تحتاج إلى أقل قدر ممكن من الجهد أو الوقت يبادر من فوره ليقول :

خلص بابا .. أنا بروح .. لا تتعب نفسك ..

يجلس إلينا في المساء وابتسامته لا تفتر ..

ينظر إلينا واحداً واحداً .. أشعر أنه يريد أن يملّي عيونه من رؤيتنا .. كمن يعشق حبيبة ويريد أن يحفظ تقاسيم وجهها .. كي لا ينساها ...

كان يبادر بنفسه بشكل دائم إلى الشاي ، فلا أكاد أشرب من الكأس نصفها إلا وأجده قد ملأها وهو يبتسم لي .. فإن شربْتُ أحسست أنه هو الذي يرتوي ..

في كل الزيارات الاجتماعية نرى بروتوكول الضيافة بوتيرة واحدة بشكل شبه رسمي بغض النظر عن المكان ، وتجد الضيافة على قدر الزيارة ، وكأن الوقت مقسّم وموزّع ما بين قهوة (أهلا وسهلا) وقطعة من الفاكهة أو الحلوى ، ثم قهوة (مع السلامة) ..

لكن ذلك لا يُستثنى في بيت الوالد .. بل تلك القاعدة تكسر كسراً !!!

فتجده يدخل ويخرج من وإلى المطبخ ، يضع الفاكهة ، والحلوى الشرقية بأشكالها المختلفة ، والشاي ، والقهوة ، وطبق العشاء ، وكل ما تصل إليه يده ، وفي الشتاء يضيف إلى ذلك قطع الكستناء .. وفي الصيف الآيس كريم .. وغيرها ..

 

لأنك من المحتمل أن تكون اليوم جائعاً ، أو راغباً بالشاي ، أو لست راغباً به .. أو راغباً بالحلوى .. وربما لست راغباً بها . وقد تكون راغباً بالفاكهة ، وقد لا تكون ..

ولعلي لا أنسى أنه يقصد دائماً أن يأكل من قطع الفاكهة التي لم تنضج بعد ، أو التي زاد نضوجها عن الحد الطبيعي ، ويترك لنا القطع الشهية التي لم تصب بشيء ..

وعلى الغداء يأكل طبق الأمس .. ويترك لنا طبق اليوم لنأكل منه ..!!

...

 

وبينما نحن معه يدور الحوار بيننا من قضية لقضية .. ومن محور لمحور .. فتراه هنا الأب الشفوق .. وهنا الحضن الدافئ .. وهنا الضاحك الباسم .. وهنا المرشد والموجه .. وهنا الفقيه والداعية .. وهنا المصلح الواعي ..

 

وكنا إذا اختلفنا في بحثنا في مسألة فقهية ، أو فتوى شرعية ، أو جدل حول قضية ما ، نبادر إلى الكتب والمراجع التي تذخر بها مكتبته ، إلا في حال وجوده . فإن المكتبة الزاخرة موجودة في صدره وفكره وعقله

 

وكثيراً ما كان أحدُنا يتشبَّث بفكرةٍ أو فتوى يراها هي الأصح .. فيبتسم ويبيّن لنا بكل هدوء وثقة ، أن على الإنسان أن ألا يتعصب لشيء ، ولا يتحجّر .. وكل شيء معرّض للأخذ والردّ إلا ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ..

ويبق الأثر الوحيد الذي لا يتغير ولا يتبدّل في كل أمسياته ولقاءاته : أنه لا يذكر إنساناً بسوء .. ولا يسمح أن يُذكر أمامه إنسان بسوء ..

فكان يرفض أن نتكلم عن أحد ولو آذانا ، أو أساء إلينا ، فمسامحة الناس وصفاء قلبه وسريرته من أولى سماته ، مردداً علينا قول الله تعالى : (يوم لا ينفع ولا بنون .. إلا من أتى الله بقلب سليم) ..

 

كنا نتسامر معه إلى منتصف الليل .. ونكاد -حالنا كل يوم- نتمنى ألا نذهب .. ولكنه يصرّ ألا نـتأخر على أهلنا وزوجاتنا وهو يردد الحديث الشريف (إن لربّك عليك حقاً ، ولأهلك عليك حقاً ، ولجسدك عليك حقاً ، فأعط كلّ ذي حقٍ حقه) ..

 

فإذا حدث إشكال بيننا وبين زوجاتنا ، يحاول ألا يتدخل إلا أن كان لذلك من داعي .. فإن تدخّل كان في الطرف المقابل لنا .. يعنّفنا ، ويقسو علينا ، ولو كنا نحن على حق !!! .. ولا يسمح بأن تخرج منّا كلمة تسيء إلى زوجاتنا .. فلم نخرج من خلافٍ قط منتصرين على زوجاتنا أبداً ..!!!!

 

فهو يعتني بزوجات أبنائه كأنهن بناته ، ويعامل أزواج بناته كأنهم أبناؤه ...

كثيراً ما كنا نأتي بدون أولادنا لئلا يسبّب الأولاد ضجيجاً يضايق أبانا .. ذلك الرجل الكبير ..

 

ولكن إذا كانوا معنا (كما يرغب دائماً) رأيناه بشيبته ، وهيبته ، ووقاره ، وقد أمسكه الأطفال من يده ، وسحبوه إلى غرفته ليفتح لهم ذلك الدرج الصغير الذي خصّصه لقطع الحلوى (والملبّس) وغيرها ، والذي لا يُفتح إلا لهم ..

 

فيفتح لهم الدرج ، ويوزّع عليهم الحلوى ، فيعطي هذا ، ويزيد ذاك ، ثم يعدل بأن يزيد الباقين ، وهو صابر على طفولتهم ، يضاحكهم ويلاعبهم حتى يفرغ ما لديه من حلوى ..

فيعود إلينا محاطاً بالأطفال وضحكته تفوق ضحكتهم وكأنه هو الآخذ وليس المعطي ..

وعند خروجنا من البيت يستوقفنا للحظات ونحن على الباب .. ليجود علينا كلَّ ليلة ، وكلَّ زِيارة ، بما جاء به إلى البيت من حاجيات ..!!

فتارة يزوّدنا بالحلويات .. وتارة بالفاكهة .. ومرة بأكياس المونة .. أو بالسمن والزيت ..(العربي طبعاً) J ..!!!!

فإن جاءته هدية من أحد فإن مصيرها أن تقسّم من فورها علينا مهما كانت صغيرة أو كبيرة ..

 

فإن ذهبنا إلى بيوتنا وقد انتصف الليل وقف على سجادته يصلي ما شاء الله له أن يصلي .. وبعد ساعات تجده أول الناس في المسجد يصلي الفجر مع الجماعة ..

 

وكثيراً ما كان يستيقظ قبل الفجر بساعة .. فيوقظ أمّنا وهو يقول لها :

إن ابننا (فلان) في حاجة .. و(فلانة) في ضيق .. في مرض .. في امتحان ..

لنقم نصلي وندعو الله له بتيسير أموره .. وقضاء حوائجه ..

 

فتقسم أمّي أنه لم يكن ينسى أحداً من دعائه ، ولا يدعو لنفسه قبل أن يذكر أبناءه السبعة واحداً واحداً بدعائه ، له ولزوجته وأولاده ..

فإذا زرناه في اليوم التالي لزيارتنا السابقة ، بادرنا بنفس الطلاقة التي يبادر بها أبٌ فارقه أولاده ردحاً من الزمن واشتاق إلى لقياهم ..

 

ويخصني بالنداء المحبب الذي أعشقه ..

حيث ينادي وهو عند الباب حين يشعر أني في البيت : (( إني لأجد ريح يوسف ..!! )) جاعلاً حبه وعطفه عليّ كحبّ وعطف يعقوب على يوسف .. وكأن هذا النَّهار الذي ابتعدته عنه كان عليه كسنين يوسف ...

 

في الحقيقة لا أدري كيف يعرف أني في البيت ، ولكن ما أعلمه تماماً أنه كلّما شعر بوجودي نادى وهو عند الباب بهذا النداء فرحاً مبتهجاً ، معلناً عن فرط فرحه وسروره أنه سيرى اليوم أصغر أبنائه ، بعد أن مضى على آخر زيارة لي يوم أو يومين فقط ..!!

مفاصل كثيرة تحضرني وأنا أستذكر حياة والدي الصّاخبة ، المليئة بالعنفوان والحركة والهمة والنشاط ..

ولا تزال كلمته ترن في أذني وهو يقول لي أيام امتحان الثانوية :

يا بنيّ .. اجتهد .. وانجح .. ولا تبالي بأي شيء .. كلّ ما تطلبه وما تريده سيكون بين يديك ..

فإن نجحتَ فجامعات العالم مفتوحة بين يديك .. اختر البلد ، والجامعة ، والفرع الذي تريد .. وسيكون لك ما تتمنى ..

يا بني ..!!! لحم كتفي اليمين لك ... فإذا انتهى فلك لحم كتفي الآخر ..!!!

 

ويختم كلامه بتلك الجملة التي لا أنساها :

يا بني ..

لو قدّم لي والدي ما أقدمه لك اليوم ، لما قبلتُ بأقلَّ من منصب رئيس الوزارة اليوم ...!!!

فلمّا نجحتُ في الثانوية لم أجد أحداً أكثر منه فرحاً وكأنه هو المتفوّق والناجح ..

......

 

وأذكر أنني هربت من المدرسة بدعوة من بعض رفاق السوء وقضيت النهار في الشارع ... فلمّا علم عاقبني عقاباً شديداً لم أجروء بعده على تكرار هذا الفعل ..

وبعد أيام كان يوبّخني على أمر لم أرتكبه ... فلما علم أنني بريء جاء إلي واعتذر وطلب مني السماح ..

 

أراه اليوم وكأنه أمامي .. ذلك الرجل الشامخ .. العالم والداعية الكبير .. بعمامته، وجبّته، ووقاره، ولحيته التي كساها الشيب .. وقد تجاوز الخمسين، وهو يعتذر مني وأنا الفتى المراهق في الصف التاسع الذي كان قد هرب من المدرسة قبل يومين .. !!

......

 

منذ أشهر قليلة كنا في زياراتنا المتكررة .. نحن وأولادنا ..

كان كما هو .. سنين طويلة لا نعهده إلا ذلك الرجل .. الذي كلما ازداد في العمر ازدادت همته ونشاطه ..

فلا يكلّ ولا يملّ من تتبّع أمورنا والعمل على حاجياتنا ..

ولا تمنعه مشاكل الناس وحاجياتهم وأمورهم من نسيان أيّ أمر من أمورنا ..

ناهيك عن المواظبة على السنن والنوافل وقيام الليل وصيام الاثنين والخميس إلى آخر قائمة يعجز الشباب عنها ..

 

خرجنا من البيت نحمل ما جادت به يمينه علينا ..

كان يعطينا ويعطينا حتى قالت له أمي : يكفي ..!!

قال : لا أريد أن يبقى عندي شيء ، كل شيء لهم .. !!!

فابتسمَت له وقالَت : لم يعد الواحد منهم يقدر على حمل شيء ..!

فانتبه إلى أنه أثقلنا بالحمل .. فابتسم وقال : أساعدكم بتوصيلها لبيوتكم ..؟؟

كانت يمينه تجود علينا .. وثغره لا يفتر عن الدعاء لنا .. وعيونه تنظر لنا بتأمل الأب الذي يريد أن يضم أولاده ويغمرهم بعطفه وحنانه ، وكأنهم فتيان صغار .. ولا ندري هل انتبه إلى أن واحدنا تجاوز الأربعين .. والآخر أنجبت ابنته طفلاً فصار جداً .. والآخر ابنه قد تجاوز طوله طول والده .. ؟؟

 

زرناه تلك الليلة ، ولم يكن أقلّ جوداً من أيّ ليلة أخرى ..

في بسمته .. وكلماته .. ونصائحه .. وتوجيهاته ..

كان هذا اليوم من أكثر الأيام رسوخاً في حياتي .....

 

استيقظت في صباح اليوم التالي والفجر يؤذّن ..

كان لرنين موبايلي صدى غريب ..

 

كان أخي الكبير على الطرف الآخر يتكلّم ..

جمد الدم في عروقي ..

وتوقف بي الزمن لحظة وأنا لا أستوعب ما يقوله ..

 

كان يبكي بحرقة وهو يطلب مني المسارعة إليه في الطريق .. فقد أصيب الوالد بحادث ..

الوالد أصيب بحادث ؟؟؟؟؟؟

لا أدري ما الذي حصل لي بعد ذلك ..

 

ولكن أذكر أني وصلت إلى الشارع الذي يفصل بين بيت أبي والمسجد لأجد والدي مسجّى على الأرض ، وفوقه غطاء أبيض ، والعمامة البيضاء تلوثت بالدماء .. والكتب الشرعية مبعثرة هنا وهناك وعليها آثار عجلات سيارة .. وبركة من الدماء بجواره ..

 

كان الناس الذين ملؤوا الشارع في هذا الوقت المبكّر جداً يلتفون حولي يريدون أن يهدئوني ..

- أنت كبير .. أنت إنسان مؤمن .. هوّن عليك ..

 

لم أستوعب ما يُقال لي .. فقد كنت أنظر إلى والدي على الأرض ..

رأيت بسمته من تحت الغطاء الأبيض .. كان بالتأكيد ينظر لي وهو يبتسم ..

بل يردّد نفس العبارة :

- ((إني لأجد ريح يوسف)) .. لابدّ أنه شعر بوصولي .. وبقربي منه ..

 

لعله يعتذر لي عن أمر من أموري لن يستطيع أن يقوم به بعد اليوم ..

لم أعد أقوى على التفكير أكثر من ذلك ..

 

وتهاويت على الأرض قريباً من أخي الكبير الذي لم تقوَ أقدامه على حمله ..

 

وتداخل النشيج مع البكاء مع الألم ..

كلنا بكينا .. تألمنا .. ذرفنا بحاراً من دموع ..

بكيت بكاءً مرّاً لم أذق أمرّ منه في حياتي ..

 

كان الناس حولي يبكون .. رأيت العديد من العمائم تنهمر عيون أصحابها بالدموع ..

 

سألت نفسي : هل أصبحتُ يتيماً ؟

- من سيعتني بي بعد اليوم ؟

- من سيقوم على أموري وشؤوني ؟

- من سيربت على ظهري عندما تقسو عليّ الحياة ..؟

- من سيهتف عند باب البيت عندما يشعر بوجودي : ((إني لأجد ريح يوسف)) ..؟؟

- بل من سيشعر بوجودي بعد اليوم ؟؟

- من سيكون لي أباً بعد اليوم ؟

- لقد أصبحت يتيماً ..

- يتيماً قارب الثلاثين .. يتيماً زالت أمامه كل السنين ليعود طفلاً فجأة ..

طفلاً فقد والده .. فقد الحنان الذي كان مغموراً به .. فقد الشفقة .. الابتسامة .. العطف .. الرّعاية ..

 

انكببت على الأرض أقبل قدميه الظاهرتين من تحت الغطاء الابيض ..

علا صوتي .. سالت دموعي .. أبعدوني عنه ..

- لا تبعدوني عن أبي ..

وناديته بكل حرقة : أبي ...!!

ولكنه لم يجب ..!!

ناديت بذهول مرة أخرى : أبي ..!!

وبقي أبي صامتاً ..

 

فالتفتّ أسأل الناس :

- ألن يعود ؟؟

- لن يرد ؟؟

- لن ينظر إلي ؟؟

- لن يجيبني ؟؟

 

أشفقوا علي ولم يجيبوا إلا بدموع صامتة ..

- أأشفقتم علي ؟؟

- أصرت يتيماً حقاً ؟؟

- سأعود إلى البيت ولن أجده ؟؟

- لن أخرج من بيته أحمل الحلوى .؟

- ولن يجد أولادي من يضيفهم حلواهم ؟

- لن يعود ؟؟

 

وغرقتُ في النشيج والألم والبكاء مرة أخرى وأنا أتألم وأرى والدي جثة هامدة بلا حراك ..

جاءت سيارة الطب الشرعي .. حملوه وذهبوا به للمشفى ..

تبعتهم .. ودخلت من الباب الخلفي بعد أن منعوني من الدخول .. اقتربت منه .. تخيّلته يقول لي :

- ((إني لأجد ريح يوسف))

 

قلت له : أنا يوسف ..

لم يجب ..

رفعت صوتي : أنا يوسف ..

- أنا إبراهيم ..

 

بقي صامتاً ..

فهتفت : من سيدعو لي في الليل ؟

من سيرضى عني ؟

بقي صامتاً ..

تلمست جسده البارد ، قبلت كفّه الطريّة ، حضنتها .. ضممتها ..

 

ثم قلت وأنا غارق في البكاء والدموع والألم والشوق :

مالي أراك اليوم ترنو صامتاً **** أين الكلام وأعذب التبيانِ ؟؟

أين الكلام وأين أعذب كلمةٍ **** "ترضى" عن الأخوات والإخوان

قل "يا رضا ربي عليكم كلُّكم" **** كم ذا لعبتم في حمى أحضاني

قل "يا رضا ربي عليكم كلُّكم" **** حتى تفوزوا في رضا الرحمن

قل لي ولو حرفاً .. لتجبر خاطري **** وتهدّأ القلب الحزين العــاني

قل لي ولو حرفاً .. لتجبر خاطري **** إني صغيرُكَ .. أثكل اليتمان

..............

 

وبقينا حوله لم نفارقه حتى انتهت كلّ أمور التغسيل والتكفين بمشاركتنا وإشرافنا ..

 

ولما خرج النعش الذي فيه جثمان والدي .. رأيت عمامته البيضاء على النعش فانهرت على الأرض ..

وأيقنت بالحقيقة ..

 

هاهي العمامة المميّزة التي نفخر بها ، ونرفع بها رؤوسنا عالياً قد صارت على النعش محمولة على الأكتاف ..!

وابتعَدَتْ العمامة، محمولة على أكتاف الحشود الغفيرة التي جاءت لتشييع ذلك الرجل الذي كان حاله معهم كحاله معنا ..

 

فهذا حلّ له مشكلته ..

وذلك أخرجه من كربته ..

وهذا زوّجه بنفسه ..

وذاك أنقذه من ثأر أعدائه ..

والتفّ الناس حولي يبوحون لي باليُتم الذي أصابهم ..

ولكنّه لم يقل لأحدهم عندما يشعر به :

(( إني لأجد ريح يوسف )) ..!!!!!!

 

ورغم كثرة الأيتام الذين ظهروا حولي ، إلا أني أيقنت أني اليتيم الوحيد ..

وبقيت أتابع بعينيّ عمامته ، دون أن أشيح بنظري عنها طول الطريق ..

 

وفي المسجد صلّى عليه أخي الكبير بنفسه .. رغم وجود العشرات ، بل المئات من العلماء والدعاة الذين غصّ بهم المسجد ..

ولما أن وصلنا المقبرة ..

 

بادرنا وإخوتي للتسابق إلى نزول القبر لننال شرف تسجية أبينا في مثواه الأخير..

فنزل البعض ولم يتسع المكان الضيّق للباقين ..

لحدناه بأنفسنا ..

 

عطرت كَفَنه بالمسك الذي أحضرته خصيصاً له ..

وقفنا على يد الحفار نُملي عليه ما يفعل وفق الشريعة ، غير عابئين بالعادات أو التقاليد ..

 

حاولت أن أحتضن أبي .. أن أبقى بجواره ..

ولكن التراب حال بيني وبينه ..

بقينا فترة طويلة عند القبر لا نريد أن نفارقه ..

......................

 

يعتاد الناس بعد دفن الميت إلى المسارعة بالتوجه لباب المقبرة لتقبل تعازي الناس ..

كانت المقبرة ممتلئة عن بكرة أبيها بالمشيّعين .. ولكننا لم نقم إلى أحد قبل أن نجلس فترة طويلة نقرأ فيها على روحه ما علّمنا إياه ، وندعو له شيئاً يسيراً من دعواته التي كان يخصّنا بها كل يوم وكل ليلة ..

واليوم ....

 

أنظر إلى أبنائي الصغار اليوم ثم أقول لهم بكلام لن يفهموه :

لو عشت حياتي مرتين أو ثلاث .. لن أقدر أن أقدّم لكم نصف ما قدّمه لي والدي ..

لقد ترك لنا إرثاً كبيراً .. ستمتدّ ظلاله لتظللكم ، وما تنعمون به اليوم من عطفنا وحناننا ، ما هو إلا جزء مما ورثناه عن أبينا ، وامتدّ خيره إليكم ..

 

 

 

 

* تعقيب على مساهمة  آباء بيولوجيون

2011-01-17
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
مساهمات أخرى للكاتب
المزيد