لأول وهلة .. حسبته منطادا أحمرا ظهر فجأة .. بعد دقائق .. اتضح لي أنه نصف قمر .
كان البحر ممتدا ً أمامي لا يفصله عن السماء خط أفق .. ربما من شدة تآلفهما قد اتحدا ... جلست على الكرسي المصنوع من خشب خفيف الوزن والذي يرافقني منذ سنين جلسات التأمل والوحدة تلك .
بدأ نصف القمر بالارتفاع ببطء .. وبدأ لونه يميل إلى البرتقالي ثم الأصفر ..
اكتشفت مكان التقاء السماء بالبحر .. لما بدأ درب من النور يمتد أمامي من هناك حتى وصل إلى ما تحت قدمي تماما .
هل هو درب النور الذي حدثتني عنه جدتي منذ مساءات بعيدة ؟
ذلك الدرب الذي يفرشه القمر للحزانى كي يسيروا إليه ؟
أغمضت عيني ..
وضعت قلمي ودفتري على الكرسي الخشبي ... خلعت حذائي وانحنيت فوق قدمي لأشمر أكمام بنطالي كي لا تبتل .. كان الماء دافئا على نحو لا يمكن توقعه في هذا الطقس البارد ..
وضعت قدمي اليمنى على بداية درب النور .. ألحقتها باليسرى .. فقفز من ذاكرتي هوسي الطفولي بالمشي على الجدران الضيقة .. منها تعلمت الدقة والحذر في أموري . لم يكن درب النور ضيقا كجدران طفولتي .. فقد استطعت بكل سهولة أن أضع قدمي الاثنتين بمحاذاة بعضهما ..وأن أقف مستقيمة ..
خطوة أخرى تقدمت على الدرب .. غرقت بمتعة المشي على سطح الماء .. تلك الأمنية التي كنت أضعها على رأس قائمة أمنياتي قبل إطفائي شموع ميلادي ..
مررت بين خطواتي ببطء .. كان القمر نصف قمر .. خيل إلي كأنه ابتسامة ثغر جميل .. لم أشأ أن أغرق بخيالاتي تلك .. أحببت فقط أن أستمتع بما يحدث ..
ممتع المشي على الماء .. سلس .. ناعم .. يشبه تماما رائحة عطر الفانيليا .. يأتي ويرحل ولا يترك أثرا هو فقط يمتعنا لحظة مجيئه ..
أو يبدو .. كأول نظرة بين اثنين لم يذوقا طعم الحب بعد .. تلك النظرة الخالية من كل شيء سوى منها ..
أصبحت في منتصف الطريق .. غدا الدرب أوسع .. كان القمر يرتفع ببطء .. إلا أنه ما زال في متناول يدي تابعت سيري حافية إلا من الماء ..
ها أنا أقترب من حلم آخر من أحلامي المجنونة .. سأصل خط الأفق .. سأسترق السمع لما يسر به البحر للسماء حين يلتقيان .. تمتمت بيني وبيني : " يا لهما من عاشقين .. لقاء لا فراق بعده " .
مددت عنقي لأرى ماذا بعد.. ليس ثمة شيء خلف خط الأفق .. سماء وبحر بلا نهاية .. " هاهي آخر أحلامي تتلاشى " .. قلت لنفسي .
ما زال القمر قريبا أستطيع الوصول إليه .. استخدمت مهارتي القديمة في القفز على الجدران .. واعتليت القمر .
على حافته جلست ملوحة بقدمي المبتلتين في الهواء كي تجفا ..
لا شيء سوى سماء وبحر ونسمات هواء باردة تلفح وجنتيّ فأبتسم على إثرها بانتشاء ..
كان درب النور ممتدا أمامي إلى البعيد .. إلى الشاطئ تماما ً .. حيث تركت كرسي المصنوع من خشب خفيف ..
إن أكثر شعور راودني حينها .. هو استهجان آلامي و أحزاني الكثيرة .. شعرت كم هي الأرض التي أقطنها صغيرة .. يا إلهي كم تورثنا من هموم .. نقضي العمر لاهثين خلف علاجات لأسقامنا .. ترين على أفئدتنا .. وتسلبنا السعادة .. وها هي تبدو من هنا كنكتة سوداء .. لا أكاد أشعر بوجودها ..
كان القمر نصف قمر .. ودرب النور ممتد أمامي منتهيا عند خط الأفق .. حين غمرت قدماي موجة باردة .. باردة جدا ..