هل نـُحِبُ فَـنـَـفـقِـدْ ؟ أم نـَفقِدُ فنـُـحِبْ ؟
أم هي فلسفة بين الحب والفقد لا يدركها قصور العقل البشري ؟ لِـمَ نفقد كل ما نحب ؟ وتتكوّم أمام أعيننا أشياء لا تعني لنا الكثير!وإن كان الأمر كذلك، فهل يتحتم علينا أن لا نشعر بالألفة تجاه شيء كي يتناسانا الفقد؟ ويبتعد بسياطه عنا ؟
نحب الوطن، فننزح عنه مكرَهين، ونهجر شطآنه،و نقاسي من بُعده أقسى أنواع الفقد، فـَـقـْـدُ الأمان، فـَـقـْدُ الانتماء، فـَـقـْدُ رائحة الأرض، وعبق الهواء، ونعيش غربة مريرة لا طعم فيها للحياة، الشمس هي ذات الشمس والقمر هو نفس القمر، بَـيْـدَ أن النهار الذي تطلع عليه تلك الشمس ليس هو ذات النهار الذي تطلع عليه شمس بلادي ولا الليل الذي يحرسه هذا القمر يشبه ليل بلادي ، إذا ً فالاختلاف في الإحساس والطعم والرائحة، لا في مكونات الطبيعة من حولنا ، لأنها تتشابه في كل بقاع الأرض. ولو أنه كـُــتِـب لنا أن نبقى في الوطن طوال عمرنا فلربما لمْ نكن لنشعر بتلك الأشياء الجميلة ولما أحسسنا تجاهها بذلك الحب الجارف والعاطفة المُـحرقة ، ربما التعود على شيء معين يجعلنا لا نفكر أو نتخيل طعم فقده أو كيفيته فيغيب عن بالنا أن نستمتع به .
نقطن في مكان ما ؛ قصر أو كوخ أو حتى خيمة .. نقضي فيه سنين عديدة، نرتاح فيه نعم؛ نطمئن فيه نعم؛ ولكننا لا نشعر تجاهه بذلك الحب الذي يتملكنا عندما نضطر يوما ً ما إلى هجره واختيار غيره سكنا ً لنا، فتأخذ الذكريات بالتسلسل في مخيلتنا تباعا ً وكأنها أسلاك شائكة نمررها على أديمنا الغضّ الطري، فنتذكر ذلك المكان الذي نحب الجلوس فيه، وتلك الزاوية التي نركن إليها، والجدار الذي أحببناه لأنه يحمل صورة عزيز لنا والأرض التي وقعنا عليها ذات مرة، نتذكر هنا كلمة قلناها وهناك ضحكة ضحكناها، وفي هذا المكان تعاتبنا وفي ذاك المكان تشاجرنا،حتى العتاب والشجار يصبح لهما نكهة جميلة تضفي على المكان ألفة خاصة. قرأت في نصّ للدكتور حسن مدن تحت عنوان ( المكان الصديق ) :
" المدهش في أمر المكان الصديق أنه قد لا يعدو أن يكون غرفة في بيتك تشعر فيها بألفة خاصة ، كأنها محراب تلوذ إليه للتوحد والتفرد، أو زاوية حميمة في هذه الغرفة تتحقق فيها رغباتك أو بعضها فتتحول هذه الزاوية إلى فضاء لا متناه من الحرية ومن سكينة النفس والفؤاد، ومع الزمن تتكون سلسلة من الذكريات الحلوة أو من الأحاديث المعطرة أو من التأملات الهادئة التي تجعل هذا المكان صديقا ً لك بالمعنى الدقيق للكلمة ".
وتمتد أذرع الفقد لِتطال الأشخاص فيكون الفقد ذا معنىً أدق، ويصلُ بنصْلِهِ إلى مكان أعمق في النفوس، ففي الموت دائما ً نفقد الأفضل ـ أو هكذا يُـخيل لنا ـ فكم سمعتُ أناسا ً يرثون فقيدهم بقولهم : كان أفضل إخوته أو كان أحسن صديق عرفته ، فهل يختار الموت الشخص الأفضل دائما ً ؟ فينتقي من نـُـحب ويرفعه إلى السماوات العلى ؟ قد يُعتبر الموت أقسى أنواع الفقد إيلاما ً وأشدها عذابا ً وذلك لفقداننا الأمل بمعاودة اللقيا من جديد حتى ولو بعد حين ، قال المتنبي:
( وما صبابة مشتاق على أمل من اللقاء كمشتاق بلا أمل) ، ويصل عندها شوقنا إلى أبعد مدى، ويأخذنا الحنين إلى طرق وعرة لا نهاية لها، نتمنى عندها نظرة أو همسة أو ابتسامة ممن فقدنا ولو كلفنا ذلك التخلي عن كل ما نملك، قد ننعم بمثل تلك الزيارة في الكرى فيمرُّ طيف الفقيد بنا كحلم رائع يروي ظمأنا ويطفيء نيراننا ويشبع مسامات شوقنا إليه، فنستيقظ ثملين من فرحة اللقيا
أوَ ليست الأرواح تلتقي في الأحلام! ويُعدّ الهجر أو الفراق نوعا ً آخرا ًمن أنواع الفقد، فعندما يكتب لنا الله تعالى أن نفارق شخصا ً قد ألفناه وتعلق الفؤاد به ، شخصا ً عقدنا عليه آمالا عظام ورأينا الدنيا من خلال عينيه جنة وارفة الظلال وبستاناً يانع الأزهار، ثم يقرر ـ أو نقرر نحن ـ الرحيل ، فنبدأ بحزم حقائبنا استعدادا ً للرحيل فنجمع رسائلنا المعطرة، وورودنا المجففة، ومناديلنا المطرزة، ونرحل ولسان حالنا يقول: يا ليت معرفتي إياكَ لم تكن.
قد تبدو العلاقة بين الحب والفقد ذات فلسفة عميقة تجعلنا نتخلى عن لذة الحب خوفا ً من ألم الفقد .