كانت عيناها تطلان من خلف زجاج البيت..كانت تنتظرني بلهفة ..هي دائما تتلهف للقائي ولا تقول حتى اشتقت لك ، تعد لي أطباق شهية أحبها عندما أحزن ولا تدعوني لتناولها، ترتب ملابسي وتضع الكحل في عيني عندما أغرق في اكتئابي ولا تقول أنت جميلة كانت تكتفي بعبارتها الشهيرة (ما شاء الله) عبارة حفظتها وكثيرا ما أرددها على نحو تلقائي على خلاف كلمتها الشهيرة (يا عبشوم!) التي لا أرددها ولكنها مستيقظة دائما في داخلي.
في ذاك المساء غمرتني، حاكت جدتي عيني الدامعتين باحتضان حار للغاية. على مئزرها الذي كانت تفوح منه رائحة الطبخ وضعت رأسي لتداعب بيديها المتجعدتين شعري الطويل. ما كنت أنظر إلى عينيها لكنها كانت تقرب يدها من مقلتي كما لو كانت تنتظر دموعي..
قالت بصوت مبحوح لا يشبه صوتها القوي أبدا..يا بنيتي ..لقد أحسنت صنعا لا تدعي الشك يقتل فرحك .
بصوت زاحمته الدموع ..انهالت كلماتي مبعثرة..جدتي أنا لم أشأ سرقة فرحة كتبت بأسماء الآخرين وخلقت من أجلهم..جدتي لم أشأ النوم في سرير لن يرضى عنه ربي ..جدتي فعلت المستحيل ليكرهني وها هو الآن يكرهني بعمق وثبات..صدقيني يا جدتي لمحت هذا في عينيه ..
كنت أنتظر منها همسا لكنها لم تفعل ..كنت أسمع قلبها ينبض بسرعة لا تتناسب مع ضعف التروية فيه ..
جدتي أو ليس من الأسهل نسيان أناس نكرههم، الآن بعد كل انتظاري واحتضاري، بعد كل ما ولد في قلبه من كراهية سأخرج من هناك.. من قلبه إلى غير عودة ..سأموت جدتي ..بكت بصوت محروق ..كانت تكره حديث الموت ..نعم لقد علمتني دوما أن أمجد الحياة ..لكنها في تلك اللحظة ما كانت تبكي (الموت) كانت تبكي ( حبا ) مات ..لأنه ما خلق ليحيا على حد قولها ..حبا ولد في حالة احتضار كما رأيت وأحسست..مات في حاضنة معزولة تفتقر للضوء والهواء ولاعتراف الهوية وزغاريد المنتظرين محبين كانوا أم كارهين، مات بصمت قاتل..بصمت أيقنت من بعده أهمية الحروب ..في الحرب ضحايا وفي الصمت أيضا ..ولكن الحرب تجتث الألم على نحو أفضل.
في تلك اللحظة..سمعت أسنان بدلتها تصطك ..وسمعت صوت شيء ما في داخلي يتمزق ، يتشقق.. يلفظ أنفاسا أخيرة أنفاسا كانت تأبى الخروج ..نعم لقد تعلمت الأنانية في عمر متأخر ..كم كنت أتمنى الكثير منها في تلك اللحظة ..حاولت أن أستجمع كل أفكاري ومعتقداتي لأخرج شجرة نمت في داخلي لأقتلعها من الجذور..لكنها كانت قد عرشت في أحشائي كجذور شجرة زيتون قديمة تقاوم إسمنت الواقع ولوثة الحياة والتقاليد.
ما كان شعري ينتظر دموعها التي أتت سخية .. كنت أنتظر منها كلمة أي كلمة .... كلمات من قبيل ..حبيبتي لا يجوز أن نظلم الآخرين ..لا يجوز أن نكون أنانيين ..لا بد وأن تظلي قوية ..أن تتماسكي ..أن تبتسمي ..أن تضحكي بصوت أرضى عنه ولا يعيبه عليك الآخرون..نعم قالت كل هذا ..لكنها نسيت أن تسأل قلبي..عن معزوفة ألمه ووجعه وعن جمل موسيقية تناثرت فيه على نحو انشطاري مجنون.
كانت هذه عادتها دوما..كانت تسألني كثيرا عن نجاحي ..عن جمال المدن التي أزورها ..عن خطواتي اللاحقة ..لكنها لم تسألني يوما عن حال قلبي ..عن حال روح تتمزق من نار كراهية أحباء لم تشته يوما إلا محبتهم...عن حال عقلي الذي اختار دوما أن يكبل أحاسيسي ويضاعف ألمي.
في تلك الليلة لم تشأ جدتي الحبيبة أن تغير عاداتها ..لم تشأ أن توقف سيل دموعها ..ربما أطربتها معزوفة قلبي الجريح فسمعتها غصبا ..احتضنتني بقوة ..ضمتني ..قبلتني بشغف كبير ..قالت أحسنت صنعا يا صغيرتي ..سيرضى الله عنك سيحبك أكثر ..سيسامحك عن أخطاء سقطت سهوا ..
عندها فقط أحسست أني على شفير الاختناق ..وقلت لها ..صلي جدتي ..صلي من أجلي ..صلي من أجل موت قلبي ..هو ليس لي الآن ..إنه ملك لك ولربي ..بكينا طويلا ..ولم تقل لي جدتي ..أبعد الله عنك الشر يا حبيبتي ..بل اختارت أن تذكرني بطعام شهي ينتظرني..
سامحيني جدتي ..هذا لأحشائي الممزقة ..ولكن ماذا عن قلبي..هل سيموت قريبا ..أرجوك ..صلي ..عديني !
اكتفت بصمت قاتل أخر ..صمتا تمنيته بارودا ..ليقتلني ..