ثانياً:أســــباب الفســاد
أولاً: السلطة:
جـ- أما السلطة القضائية فهاهنا بيت القصيد وهنا محط الرحيل، وهنا مكمن الخطر الأكبر على النظام والناس. فالخلل فيه خلل قاتل للنظام العام وللقانون العام، فالقضاء هو الحكم الفاصل بين الناس والضامن لحقوقهم والمحافظ على أمنهم وأمانهم في وطنهم، الذي إذا ما انهدم تصدع بناء الوطن بأكمله، وإذا كان القضاء بخير فالوطن بخير، كما قال تشرشل في عز الحرب عندما سأل عن القضاء وأُجيب انه بخير (إذاً بريطانيا بخير)
وقد بدأ الفساد في هذا الجهاز بسيطاً وتطور ببطء لكن باتساع مخيف، ووجد فرصته الذهبية في قضايا التهريب بأنواعه والتداخلات المختلفة فيما بينها والترابط، ولا يزال... ووجد ضالته في محكمة الأمن الاقتصادي التي تشبه محاكم التفتيش العالمية الشهيرة... خاصة عندما كان يرأسها أحد المسؤولين الانبطاحين الساطين والمزاودين المارقين لدرجة لا تطاق، والإساءات في هذه المحاكم بحق المواطنين والوطن لا تحصى، فقد فتح الباب واسعاً أمام الرشوة والبرطيل والمساومة فيها ( البازار ) بين طرفي العدالة المفترضة، والثراء الفاحش من وراء ذلك، وأصبح الحق ضائعاً في أروقة قصور العدل، إلا لمن يدفع ليضمن حقه أو ليغتصب حق الآخر... حتى الأحكام المكتسبة درجة القطعية النهائية، لا تنفذ إلا إذا دفع لمن يلزم... والأمثله أكثر من أن تُحصى، كما يقول المواطنون الذين لهم علاقة بهذا الموضوع حتى لو كان فيه بعض المغالاة، لكن هذا لا ينفي وجود هذه الظاهرة بقوة ووضوح وإندياح شبه معمم... وما توقيف... وإحالة بعض القضاة للعدالة إلا جزء بسيط من عملية التطهير المطلوبة بإلحاح، وربما يخطر بالبال سؤال هل أحيل المحامون أو غيرهم المتعاملون مع القضاة المتهمين بالفساد؟! الذي لم يثبت بعد، لأنه لم تصدر أحكاماً بعد؟ وأصحاب الدار أعلم بما فيها... فإذا أرادوا إصلاح البناء، لا بد من أن يحددوا الخلل، نوعه، مكانه، حجمه، قوته، ضعفه... ومن الأساس وبشمولية وموضوعية وحق وعدل، ليعود ناصعاً ومميزاً ومستقلاً بامتياز حقيقي ناصع، وواقعي أكيد وهو ما ينص عليه الدستور السوري...
د- السلطة السياسية: هي قائدة الدولة والمجتمع من خلال الحزب، حسب الدستور، الذي أصابه الخلل في بنيته وتكوينه، وانتابه الضعف والترهل والاستكانة والإحباط، من قواعده إلى أغلب قياداته، والحكم على قواه الفاعلة بالشلل، وعدم القدرة على التحرك والعمل الايجابي... ولا حتى الدفاع عن النفس أمام طابور هائل من المتسلقين والانتهازيين والمنافقين، الذين غزوا جسم الحزب منذ زمن بعيد وتتالى توافدهم عليه لتحقيق مآربهم والحصول على المكاسب والامتيازات الشخصية، وهم الأقدر على المزاودة في كل شيء... انضباطاً والتزاماً واندفاعاً وتهويلاً وبالاستعداد للتضحية والفداء... في الهواء... والثرثرة الثورية والطهارة النضالية... حتى ليخيل للمراقب المحايد أنهم من جنس الملائكة بالأقوال والخطابات والشعارات... وهكذا تحول الحزب بهؤلاء إلى مظلة يركن تحتها جيش من الموظفين الموالين، ومتابعي المعاملات وأصحاب مكاتب المصالح والتشغيل والتسهيل والتسويق بمقابل أو بدون... وترنحت ورقدت طويلاً السياسة في سوريا، ورقد معها كل شيء أيضاً... حتى غرقت في نوم قلق... وتخدرت وأجدبت وتخلفت عن الحراك السياسي الفعال لأكثر من ثلاث دورات حزبية... فلا مؤتمرات ولا حوارات ولا نقاشات جدية ومجدية... ولا تساؤلات حقيقية ولا مساءلات ولو بالاحتمال الآتي... فشـرّش الفساد وتجـذر الخلل وتكلّس السوء والخطأ والمرض... وقيادات أبدية خالدة لا تزحزحها حتى الأعاصير... فلم ولن تلد النساء مثيلاً لها أو بديلاً عنها...!! مما جعل عودة الحياة لهذا الحزب العليل... وبالتالي النشاط للساحة السياسية في سورية ضعيف جداً, ( لكنه ليس مستحيلاً بما تملك من قوى مخلصة كامنة, لابد قادم مناخها ودورها... ) فقد استكان المسؤولون السياسيون والحزبيون في مكاتبهم... وعافوا النشاط والحركة بين الجماهير ومعها... فهم يعرفون ما تريد وما تعاني..!! وواثقون من وقوفها معهم والدفاع عنهم وعن النظام السياسي... وواثقون أيضاً من أن قواعدهم وجماهيرها لن تحاسبهم... فهم معينون من الأعلى ورضاء هذا الأعلى هو المطلوب والمهم... لهذا كانت نتائج اسلوب تعيين القيادات المتبع في الماضي, كارثية على الحزب والوطن... والذي أضعف الشعور بالمسؤولية أو تلاشى, وحل محله تضخم الذات وتمركز الذوات واللامبالاة... وسادت المصلحية والنفعية في العلاقات في هذا المجال... وتواكل هؤلاء واتكلوا على هذا التعيين في مصيرهم... فلا يهم الاجتماعات الحزبية التي فقدت جاذبيتها وبريقها ومضمونها وفاعليتها وجدواها... وصارت مهمة تؤدى كواجب ورفعاً للعتب لا غير...
وينسحب هذا على أحزاب الجبهة والمنظمات الشعبية والمهنية...الخ وكافة مجالات العمل السياسي رغم الانتخابات المرتبة التي كانت تجري فيها بالكثير من الأحيان لتضفي على التعيين الممّوه, الشرعية إذا لم يكن التعيين اسلوباً رسمياً وعلنياً... ولكن للحق أقول رغم الصورة القاتمة التي مرت بها سوريا وحزبها العظيم فان الكثير من الشموع تضاء هنا وهناك وتبعث الثقة والأمل في نفوس بقايا مناضلي البعث الشرفاء والمواطنين المكافحين السائرين جميعاً خلف القائد... الذي كان يكرر في الكثير من المناسبات على ضرورة التمتع بشعور عال بالمسؤولية, وعلى التمسك بأخلاق البعث السامية... لكنه كان كمن يقرع جرساً في الصحراء فلا سميع ولا مجيب... لا بل كانوا يزدادون غلواًً وفوقية وغروراً وغرقاً في وحل الفساد والرذيلة السياسية البغيضة ولكن يبدو أن زمانهم قد ولى أو يكاد...
هـ- السلطة العسكرية: أولاً القطاع العسكري من قطاعات الشعب، الأفضل تنظيماً والأجود أداء والأروع تضحية وعطاء، والأكثر استهلاكا أيضاً، والأعظم دوراً في حماية الوطن والأمة ونظام الشعب ومكتسبات الجماهير بالمطلق. رغم ذلك يبدو أن بعض الخلل تسرب إلى بنية المؤسسة العسكرية الذي يعود إلى أولاً اختلال الموازين والمعايير الرسمية المعتمدة في اختيار الأشخاص لإشغال الوظائف والمناصب بشكل عام، كالكفاءة والخبرة والجدارة والتأهيل والثقة... والتي أضرت بكل ما يدفع إلى الجد والاجتهاد وزيادة الهمة والنشاط للتفوق والتميز بكل شيء لتحقيق الطموح في الترقي والصعود في سلم المراتب والرتب، خاصة بعض التقييمات غير الموضوعية التي جاءت بعد حرب تشرين المجيدة، فأكرمت من يستحق ولا يستحق وأهملت من يستحق ولا يستحق، وأوجدت خللاً كبيراً في القدم والتسلسل النظامي، وخللاً أكبر في القناعات والآراء حول الصدقية والعدالة والتجرد، وتأثير ذلك على الحيوية والنشاط والتنافس الشريف المفيد لرفع المستوى للأفضل، وأوجدت دوافع للبحث عن أساليب توصل إلى المطلوب خارج المألوف الرسمي... وهي بداية الدخول إلى واحة الفساد. والسبب الآخر يعود لتمركز الامتيازات والصلاحيات وحرية التصرف الواسعة في عدد محدود من القيادات المختارة على حساب الغير المستحق... واستغلال شعار " الجيش للحرب والإعمار " للإعمار الخاص الكبير والعديد... والشواهد أكثر من أن تحصى على ساحة القطر، لدرجة بدا وكأنه أصبح أمراً عادياً ومشروعاً بكل بساطة ويسر، وما تبع ذلك من هدر للطاقات والإمكانيات، بالإضافة لامتداد نفوذ بعض القادة المتميزين إلى القطاعات المدنية للأقارب والمقربين وغيرهم... وما تكدس من ثروات وإساءات جراء ذلك...
وثانياً كما يقال " الجيوش تزحف على بطونها " فلماذا يجري من قبل البعض السطو على مخصصات أبناء هذه الجيوش، لا بل استغلالها أيضاً بكل أساليب الجشع والطمع، والتسابق على الإثراء أكثر والفوز بأكبر الغنائم، بلا حسيب أو رقيب إلا للضعيف والغرير... وكل الذين عايشوا هذا الموضوع وذويهم، يعرفونها وكابدوا منها وعانوا وصبروا... وبالإجمال فسد الكثير... وأفسدوا الأكثر... وزد فإن فتح باب البدل النقدي لذوي الخدمات الثابتة، سيفتح باباً جديداً للفساد عند ضعاف النفوس، فلماذا لا يكون البدل النقدي ، لكل من يرغب بذلك، ويذهب دخله لصندوق خاص ( صندوق المجندين ) يوزع ريعه على المجندين الذين يؤدون الخدمة، / فالقادر يدفع وينتج وغير القادر يقبض ويستهلك / وقد قُدم اقتراح معلل بهذا الشأن سابقاً للقيادة السياسية والعسكرية...
ونقترح هنا أيضاً تخفيض البدل النقدي للمغتربين خارج الدول العربية تخفيضاً حاداً، لا بل يفضل إلغاءه، لتحفيز هؤلاء بكل الوسائل المتاحة للعودة إلى الوطن، ومعهم خبراتهم أو مع أموالهم أو مع الاثنين معاً، والرابح في النهاية الوطن حتماً... فالجهد الواجب كبير والمثابرة أكبر، لإعادة النقاء والصفاء والنظام والقوة لهذا القطاع، بعقلية متطورة، وبمعرفة واسعة ودقيقة وبتصميم أكيد على تحديث الوسائل والأدوات، وبتأمين الكفاية والعدل للجميع على حد سواء، ليعود هذا القطاع إلى تميزه وفرادته وعنفوانه وكبريائه ، الذي هو عنفوان وكبرياء الوطن العزيز...
و- السلطة الأمنية: التي أدت دورها الوطني الهام بكل جدارة واقتدار وأمانة وتفاني في حماية المجتمع والدولة من كل الذين يضمرون الشر والسوء... والحفاظ على الأمن والاستقرار الرائعين في القطر بشهادة العالم أجمع... مزودة بأوسع الصلاحيات وأكبر الإمكانات وأفضل الامتيازات مكافأة لها لما بذلت من جهود وتضحيات جسام... ولا تزال... ولكن عبر مسيرتها الشديدة الأهمية والخطورة والحساسية... ظهرت بعض التصرفات والأعمال خارج نطاق مهامها واختصاصاتها، من قبل بعض عناصرها، بالتدخل المباشر وغير المباشر بمشاكل الناس والمجتمع والمساهمة بحلها بحق أو بدون، بسطوة سلطتها ظالمة حيناً منصفة حيناً آخر... جيدة حيناً، سيئة أحياناً... وتسهيل أعمال التهريب والعبور من قبل البعض الآخر أو غض النظر عنها، مع بعض عناصر الجمارك... وما أدراك ما الجمارك... " الجهاز الأكبر تفريخاً للفساد، والأشد تأثيراً سيئاً وضرراً أكيداً على الناس بالنتيجة النهائية، كما هو معلوم للجميع... ويا مغيث...!! من الأرض الخصبة والمجموعات الأخصب والردع الأضعف، رغم وجود الشريف والنظيف، وهم فيه كثر أيضاً... " وغالباً ما تكون هذه الأعمال والتصرفات بمقابل غير قليل ونادراً بدون، ولا أحد يجرؤ على الاعتراض، ولا أحد يُحاسب... إلا إذا افتضح الأمر ووصل... مما أضر بسمعة هؤلاء وبسمعة الجهاز الأمني ككل... وعرشت كثيراً إلى الأعلى...
بالإضافة لما كان يجري من تدخل الأمن في الكثير من الأمور والقضايا والشؤون السياسية والحزبية والاقتصادية وغيرها... لدى جميع السلطات وعلى كافة المستويات... بعرف عام وجارٍ سواء كان بتوجيه حيناً أو باجتهاد حيناً آخر... وقد يجري التمادي بالاجتهاد أحياناً... وكان من الأخطاء الجسيمة للسلطة السياسية، تكليفها الأمن بأعمال ومهام خارج دائرة اختصاصه الأساسي، وربما دفع البعض منه إلى تجاوز التكاليف هذه، مما نجم عنه نتائج سلبية جداً، وإرهاصات ضارة جداً، وإقراراً شائعاً جداً... بأن من يريد أن يحقق هدفاً سياسياً أو اقتصادياً أو غيره كائناً ما يكون... عليه أن يسترضي الأمن أولاً وليس آخراً... حقاً كان أو وهماً، فالأمر للأسف واقع ومتداول... مما أساء لهذا الجهاز المتفاني، والى النظام الوطني الشامخ إساءة بالغة، مما حدا بالبعض لهذا... ولما زرعه الجهاز الأمني، من رهبة وترهيب، ومن رعب وتخويف، ومن تحسب وحسبان في نفوس الناس وعقولهم... بالحقيقة أو بالوهم... بإطلاق صفة الدولة الأمنية، على النظام السياسي الوطني في سوريا...!! ومن كل هذه الأمور وغيرها، يمكن الوقوف على السبب الذي شجع عصابات السلب والمافيات بأنواعها، على نشاطات وأفعال كثيرة قذرة ومدانة، تحت مظلة انتحال الصفات الأمنية الذائعة الصيت السيئ، والتي لا يجرؤ الذي يتعرض لمثل هذه الأعمال وما يرافقها من إذلال وقهر وصمت ... على الطرقات العامة أو في المساكن أو في أي مكان، لا يجرؤ على الاعتراض... أو حتى التحقق من صحة من يدعون ولا تكتشف الحقيقة إلا بعد فوات الأوان. مما حدا بالسيد الرئيس إلى إصدار قانون يقضي بالإعدام لمن يرتكبون مثل تلك الجرائم، خاصة السطو المسلح بادعاء الصفة الأمنية، لبسط الأمن وإعادة الثقة بالجهاز الأمني بشكل عام...
- أما الحديث عن جهاز الأمن الداخلي، لانتشاره الواسع على مساحة الوطن وعلاقاته المتعددة مع المواطنين بشقيه الشرطة وهي الأسوأ فساداً، والأحوال المدنية الأقل سوءاً، بحيث تغلغل فيه من أخمص قدميه، إلى قمة رأسه، خاصة في زمن المسؤول الذي أقام 14 سنه على رأسه ( وأفقد شريحة كبيرة من الناس الثقة بالقانون من خلال موضوع الأسلحة المسلمة للسلطة مع رخصها كأمانة وبيعت، بدلاً من إعادتها لأصحابها عند المطالبة بذلك، ولم يسحب السلاح الحقيقي الخطر من أيدي الناس ) والأسوأ في هذا الجهاز هو شرطة المرور الشهيرة، فدورياتها على الطرق العامة، إذا ما صفرت أو أوقفت آلية ما، معنى ذلك مباشرة أن عليها دفع المعلوم، وإلا كانت المخالفة... حتى ضاعت الطاسة بين المخالف حقيقة وبين الذي يجب أن يدفع، وبوابات مراكز الانطلاق شاهد حيّ على الفساد العلني، فالدفع واجب عند تصديق قوائم المسافرين فقط لا غير، مما اضعف الشعور بالمسؤولية الأمنية الواجبة تجاه ذلك، غير الإتاوات التي فرضت على سائقي السرافيس في كل خط .... اندياحاً إلى كل تبليغ أو تحقيق أو شكوى أو سؤال أو متابعة تقوم به الشرطة وهي كثيرة جداً...
ويبدو أن القضاء على ظاهرة الفساد في هذا الجهاز ومعه جهاز الجمارك يحتاج إلى معجزة حقيقية، فكما هو معلوم تعاقب على المسؤولية في القمة أشخاص مشهود لهم بالنزاهة والشرف والمعرفة، واتخذوا إجراءات وقرارات للحد من هذه الظاهرة لكنهم فشلوا في ذلك... لأنها متأصلة بالجهاز ومتجذرة لدى العاملين فيه لدرجة يتباهون: بأنهم يستفيدون أكثر كلما ارتفعت قيمة المخالفة، فيكون الدفع أقل من كلفة المخالفة... والأسوأ أنهم باتوا يقبضون ما يفرضون جهاراً وعلانية وبدون خجل أو حياء، وكأنه حق من حقوقهم المشروعة... كونهم كما يدّعون يؤدّون الخراج المطلوب، أو أنهم اشتروا ويشترون بعض المراكز بالمعلوم... بالتالي فان أمر دحر هذه الظاهرة، يحتاج لمنظومة من الأعمال والإجراءات النظرية والعملية وأهمها كفاية الأجر والمساواة، لوضع الجهاز الأمني بأنواعه، بأسلوب حضاري راقٍ وجميل، ولإزالة الآثار السلبية التي لحقت به من خلال أدائه لدوره الرائد، في خلق الطمأنينة والأمان لدى عامة الناس، بدءاً من البقية الباقية من العقلية الماضية المتحجرة والقاسية، إلى كافة الأعمال والتصرفات الخاطئة والضارة، المكشوفة والمعروفة جداً للملأ أيضاً.