استيقظ عماد باكراً و أحسَّ بالإرهاقِ الشديد و التعب يملئ مفاصله و يصبُّ في عروقه و استغرب هروب النوم من بين عينيه رغم نومه متأخراً ليلة أمس .
قام من فراشه و سمع بأذنيه صوت دقات قلبه و سرعة خفقانه و كأنها تذكّره بالموعد الهام الذي ينتظره اليوم هذا الموعد الذي طالما حلم و فكّر به.
شعر ببطيء عقارب الساعة و طال انتظاره حتى شارفت الساعة تمام التاسعة ذهب إلى غرفته الخاصة و أغلق الباب خلفه و أمسَّك بسماعة الهاتف و بدأ يتصل برفاقه واحد تلّو الأخر يصبّح عليهم و يذكرهم بالموعد المنتظر و الساعة المرتقبة و يحثهم على عدم التأخر , الكل أكد تمام الجاهزية و أعلن كامل الاستعداد للمهمة المشرفة و للساعة المشهودة ما عدا أقرب أصدقائه و رفيق دربه و تؤم روحه و بيت سره حسام .... الذي ردت والدته على الهاتف و أكدت أن ابنها يعاني من ارتفاع شديد في درجة الحرارة و إنها لا تستطيع إيقاظه لأنه عانى الأمرين قبل أن يخلد النوم.
توضئ عماد و صلى لله تعالى ركعتين سنة صلاة الضحى ثم ذهب إلى غرفته و أتم ارتداء ملابسه و أنسلَّ خارج البيت دون أن يشعر به أحد .
خرج من منزله وتوجه فوراً إلى بيت صديقه حسام لأنه أحسَّ بطعنة غدر و من أعز أصدقائه وأصبح متأكداً من أن رياح الخوف اجتاحت كيانه و أنامل الرهبة قد تسرّبت إلى قلب صديقه حسام الرقيق و خدشت أحاسيسه المرهفة و منعته من الخروج معهم.
دقَّ الباب طويلاً على منزل حسام قبل أن تفتح والدته الباب و أكد لها انه جاء للاطمئنان على صحة حسام و عادت هي قراءة روايتها بأن حسام متعب و لا يستطيع الخروج من البيت و هي تخاف عليه من حر هذا اليوم و بينما هما يتبادلان أطراف الحديث و إذا حسام بملابس النوم يبعد أمه عن الباب و يطلب من صديقه الدخول و هنا فقط أحسَّ عماد بتأنيب الضمير لأنه ظن السوء برفيقه فهاهي علامات المرض باديةَ على وجهه الشاحب و ملامحه فأذنيه مثل الوردة الحمراء و يداه مثل الثلج باردتان .
دخلا إلى غرفة الضيوف و تحدث عماد حتى قبل أن يجلس وقال : صديقي حسام المؤمن إذا وعد أوفى و إذا حدث صدق و الشباب بانتظارنا بعد الصلاة و اليوم هي فرصتك و فرصتنا لنقول كلمة الحق و نطالب بحقوقنا و ننصر إخوتنا ثم لماذا الخوف طالما أن حركتنا سلمية.. سلمية و مطلبنا الوحيد هو الحرية و إن الشباب الذين سيخرجون معنا هم من الجيل المتعلم الراقي الذي يدعوا للإصلاح و يرفض أي نوع من الفوضى و التخريب ثم إن الرجل هو في النهاية موقف و إذا كان موقفك معنا... فعلى بركة الله و إلا.. فلكم دينكم و لي دين ...
و فعلاً ما هي إلا دقائق معدودة حتى ذهب حسام و غّير ملابسه و استعد لمغادرة البيت مع عماد ولكن أمه اعترضت طريقه وهي تحمل طعام الإفطار لكن حسام نظر إلى ساعته و قال لها إن الوقت أصبح متأخراً و لا بد لنا أن نسّرع حتى نلحق بصلاة الجمعة و كما يقولون بأن المؤذن قد وضع كفه على خده ليؤذن لصلاة الظهر .
خرج عماد من المنزل سعيداً مبتهجاً وقد أحسَّ بنشوة الانتصار أما حسام فقد خرج وهو يكابد ألامه و يساير صديقه رغم أوجاعه حتى لا يقال يوماً من الأيام انه خرج عن الجماعة و لم يفِ بوعده. ذهب الاثنان إلى الجامع الكبير و عندما دخلا بيت الله أحسَّا بالطمأنينة و لفحهم الهواء البارد الذي يخرج من أجهزة التكييف فينعش الفؤاد و يشرح الصدر و ما هي إلا دقائق حتى جاءت خطبة الجمعة واضحة و مختصرة حيث دعاهم الخطيب إلى المحبة والتسامح ونبذ الفرقة و التمسك بهدي القرآن وأخلاق السيرة النبوية .
أما بعد الصلاة فقد خرجت الجموع من الجامع الكبير و بدأ بعض الشباب ينادي و بشكل راقي حرية .... حرية و تعبر المظاهرة عن مضمونها و تنادي سلمية... سلمية و ما هي إلا دقائق معدودة حتى اختلط الحابل بالنابل و خرجت المظاهرة عن السيطرة و دب الهرج و المرج في الحارات و الأزقة المحيطة و بدأ بعض الفتيان بنشر الفوضى و إحراق حاويات القمامة و إجبار المحلات التجارية المحيطة على الإغلاق و تكسير زجاج بعض السيارات التي حاولت عبور الطريق و الدخول ضمن المظاهرة و لا أحد يعرف من أين خرج الملثمون و بدئوا برمي قوات حفظ النظام الذين سارعوا إلى المكان بالحجارة .
وفجأة بدأ إطلاق النار و بشكل كثيف في الهواء و فوق الرؤوس فانبطح البعض على الأرض و توارى الآخرون خلف الجدران و السيارات و انتظروا دقائق حتى تم وقف إطلاق النار و عندها هب الجميع كل واحد يريد أن ينجو بنفسه إلا شاب واحد مازال يجثو على صدره و هنا سمع الجميع صوت عماد و هو يصرخ من صميم عقله حسام ... حسام
قفز عماد من بين الجموع وكان أول الواصلين إليه قلبّه على ظهره و ضمه إلى صدره و إذا بجرح عميق في رقبته حاول أن يضغط هذا الجرح بإصبعه و لكن الدم كان يخرج شلالاً مع نبضات قلبه ولن ينسَ أبداً عيون حسام و هي تميل إلى الغروب و ابتسامةٌ مريرةٌ تخرج من بين شفتيه و كأن لسان حاله يقول ..... أنظر ماذا فعلت بي يا عماد... نطق الشهادة و زفر زفرته الأخيرة وهو في حضن عماد و عندها غابت الدنيا كلها من عيون عماد و سمع من بعيد صوت ينادي للشهيد و كم كان وقع هذه الكلمة عليه ثقيلاً و أليماً و تمنى في تلك اللحظة لو يحمل حسام و يعود به إلى حضن أمه ليكمل فطوره و لكن هيهات فالزمان أقسَّم على نفسه منذ الأزلّ أن لا يعود خطوة واحدة للوراء .
نظر عماد إلى يديه الملطختين بدم أعز الناس إلى قلبه و لمح ثيابه المصبوغة باللون الأحمر القاني و كأن كل ما حوله يدينه و يستنكر فعلته , ضم حسام إلى صدره و بكاه بقدر ما أستطاع من البكاء و لم يتركه حتى تجمع الشباب من حوله و انتزعوه من أحضانه و حملوه على الأكتاف و انطلقوا يغنوا و يهتفوا للشهيد .
حاول منعهم وزجرهم هو يطلب الراحة و الرحمة لروح الشهيد لكنهم مضوا في طريقهم و تركوه وحيداً و فشل مرة أخرى في الحفاظ عليه حياً وفي حمايته ميتاً.