لم يكن يخطرُ ببالي يوماً أن أعرُض شقّتي السكنية للبيع و لم أفكرُ لحظةً واحدةً بأن أتاجر بأحلام زوجتي و أطفالي وأن أُقتلع من جذوري و أن أصبح وحيداً عارياً هارباً من ذكرياتي و شجوني و اضطر أسفاً إلى بيع بيتي ومكاني وعنوان وجودي.
أرجوكم لا تبخّسوا بيتي حقه فهو مبنّي حجراً حجراً من دمي و دموعي و أيام اغترابي فعشرون عاماً قضيتها في بلاد الاغتراب و أنا أواصل العمل أناء الليل وأطراف النهار في سبيل أن أجمع ثمنه و أجعله مقراً لسعادتي و قصراً منيراً يلم شمل أسرتي و فيه منتهى كل أحلامي وآمالي و خلاصي من كل ما يعكر صفو أيامي .
في كل زاوية منه ذكرى و على كل بلاطة من أرضه قصة و لكل غرض فيه حكاية و رواية و ربما دمعةً و غصةً.
فهذه الغرفة الوردية هي غرفة نوم بناتي الثلاثة هلا و علا و سمر ... جميلة بكل ما فيها من ألعاب الأطفال وتزينها الآسرة الملونة و السجادة الصوفية حيث نقشت عليها أسماء بناتي , أما في ذلك الصالون فقد كانت تجلس أمي وتلبس نظارتها الطبية وتمسك بصنارتيها و تحيك كنزة صوفية لأبني الذي لم يأتي ...و لن يأتي أبداً لأن يوم ولادته تأجل إلى إشعار أخر .
وهذه هي الشرفة القبلية المطلة على المشفى الوطني والحدائق الجميلة المحيطة به .
وهناك في الجهة المقابلة جامع سيدنا خالد حيث ينشرح الصدر و تزهو الروح بسماع صوت الآذان و ترانيم صوت القرآن ... أما في الجهة الغربية فهناك يحلو الكلام حيث تغازل الشمس نوافذ البناء و توزع عليها القبلات و تهديها كل يوم قبساً من الضياء و ترسم لها عند المغيب أجمل اللوحات و تلونها بألوان دم المخاض .
أما عن المطبخ فهو واسع و جميل و فيه كانت زوجتي تقضي أغلب أوقاتها و بأيديها البيضاء الطاهرة كانت تمسح كل شيء و تنظف كل شيء و ترتب كل شيء لا يحلو المكان إلا بوجودها و لا ترتاح العين إلا برؤياها .
و نسيت أن أخبركم شيئاً هاماً فعندما غادرت البيت أخر مرة كان بيتي في الطابق السابع ذهبت لشراء الخبز و الحليب كان الجو متوتراً والحواجز تقطع أوصال المدينة و أصوات المدافع تعلن الحرب على الجميع, قالت لي أمي لا تذهب وأما زوجتي فقد كانت خائفة و أيديها باردة و قالت لي لا تتأخر أما بناتي فقد كانوا يلعبون و ينتظرون طعام الإفطار و كأس الحليب .
لم اذهب بعيداً و ما هي إلا دقائق معدودة حتى دُكت السماء دكاً ورُجت الأرض رجاً و أصبح بيتي هبائاً منبثاً وأضحى الطابق السابع الذي كنت أتباهى بطلّته هو الآن في الطابق الأرضي قريباً من الشارع .
أرجوكم اخلعوا نعليكم فهنا على هذه الأرض كانت تصلي و تسجد أمي و هناك تحت الركام ترقد حبيبتي بسلام , أرجوكم لا تزعجوها فهي وعدتني أن لا تطيل الغياب وأن تعود و تقف بجنبي وتكمل المشوار اعذروني مرة ثانية إن تلوث جدران المنزل بأشلاء بناتي فهم حتى الآن لم يعلموا من حرمهم من كأس الحليب و من لم ينتظرهم حتى ينهوا طعام الفطور .
فمن يشتري منكم بعد اليوم همي و أحزاني ....
ملاحظة : العنوان - حمص - جورة الشياح – مقابل المشفى الوطني