عادَ إلى بلد الاغتراب تاركاً رقمَ جواله الذي أُمضي بعضاً من أوقاتي بتأملِ أرقامه وبعضٍ من الصور التي كنا قد التقطناها سويةً والتي تحمل ابتساماتٍ علَّ معظمها كان في وجهِ آلة التصوير ليس إلا.
أجلسُ أحاول استرجاع معالمَ وجههِ، ضحكاتهِ ، نظراتهِ وعباراتهِ التي لا تخلو أبداً من كلمةِ أُحبك. يدفعني هذا للابتسامِ في قرارةِ نفسي، فهو لم يمضِ معي غير أيامٍ معدودات على كلِّ كلماتِ الحب تلك.
أهذا ما ندعوهُ بالقدر بأن نلتقي بمنْ سوف نمضي معهم جلَّ حياتنا أياماً قليلة ليصبحَ تواصلنا قائماً على قطعةٍ صغيرةٍ من المعادن غالباًً ما يضيع الصوت في فضاءاتها الكثيرةِ. ربما أشعرُ بظلمِ الحياةِ في هذه اللحظاتِ بصياغةِ أقدارنا فما لبثت تقودنا خلفها غيرَ آبهةً بأحلامنا وآمالنا .
يتبادرِ إلى مخيلتي ذاك الشابُ الذي أمضى العديدَ من سنواتِ شبابه في بلادِ الاغتراب وعاد إلى أرض الوطن باحثاً عن الدفء الذي لم يزل معلقاً في قميصه بعد عناقِ والدته الطويل له. عادَ ليجد له عروساً تشاركه البيت الذي أضحى يحسه أشبهَ بفندقٍ ذي خدمةٍ بالغةِ السوء فهو المديرُ والموظفُ في الآن ذاته.
يبدأ ذاك المنسيُّ في بلاده بحثه عن شريكةِ حياته واضعاً معايراً عدة تختلف تبعاً لظروفه وظروف البلدِ القادم منه. يدخلُ العديدَ من البيوت ويتكلمُ الكثير، ففي جعبته من حكايات الاغتراب ما لن يدعه يتوقف عن الحديث إلا حين يصل فنجان القهوة. تدخلُ الفتاة ليبدأ ذاك الشاب باستراق النظر لها محاولاً وضعها على ميزانِ معايره الكثيرة. نرى في الآن ذاته تهيئة الشابِ لنفسهِ لتكون جاهزةً لاستقبال الرفض الذي قد يتلاقاه من بعضِ البيوت التي يزورها، ففكرة السفر لا تزل مرعبةً للفتاة وذويها في بلادنا .
قد ينجحُ ذاك الشاب أخيراً بلقاء شابةٍ تحمل الكثير من الصفات التي يبحث عنها لتبدأ هنا الخطوة التي تشكلُ التحدي الأصعب لدى الشاب، فنيل إعجاب الفتاة ليس بالأمر السهل أبداً. في الحقيقة، من هذا القادم من بعيد ليدخل حياتي بهذا السرعة؟!
و يبدأ بنثرِ كلماته على مسامعي عن حياته وآمالهِ وعن حياتنا سويةً فكلُ هذا الكلام يدفعني للشعور بالدوار فعلاً.
هنا يتبادرُ لذهنِ القارئ: ما الشيء الذي يدفعُ الفتاةَ للموافقةِ على هذا النوع من الزواج؟ والجوابُ بسيطٌ على ما أظن، يتلخصُ بطبيعةِ مجتمعتنا التي لا تتوقفُ عن عدِّ الفرصِ التي قد تحصل فيها الفتاة على زوجٍ جيدٍ بمعايرهم.
فمازلنا حتى يومنا هذا ننظرُ للفتاة بأنها الضلعُ القاصر والغنيمةُ التي يحصدها الرجال بعد حروبهم الطويلة. المرأة دون رجل جانبها بفكرِ الكثيرين تبقى مثاراً للشفقة كلما تقدمت بها السن. فالمَثل الشعبي القائل ( اخطب لابنتك قبل أن تخطب لابنك) ربما هو قادمٌ من هنا.
يسافرُ ذاك المنسي مجدداً، لكن هذا المرة بخاتمٍ يزيُّن يده، يراه دائماً كناقوسٍ يخبرهُ بأنه لم يعد كسابقِ عهده، فهناك الآن من تنتظره وتحلم بقدومه ومتشوقةٌ دائماً لسماعِ صوته، ومن هنا يبدأ بلعبِ دورِ الزوج بشكلٍ مبكرٍ جداً.
فإظهار السلطة ومحاولة الاستحواذ على الطاعة من منْ سوف ترتبطُ به هو شعورٌ لم يتعود عليه من قبل. تبدأ في هذه المرحلة الصدمات وخصوصاً إذا كان الشاب يجهل معنى الوقت في بناء أي علاقة ودٍّ يؤمل منها أن ترقى إلى علاقةَ حب.
فالخطورةُ في هذا المرحلة تكمن في توقع الكثير من الطرف الآخر وجهل معنى الخاتم الذي ليس هو ما يشكل الرابط بين اثنين .
تدفعنا كل هذه الأفكار المطروحة الى المراهنة بيننا وبين أنفسنا على استمرار هذا النوع من العلاقات، فبين شابٍ يعيشُ وحده في عالم الاغتراب، لديه من ضغوط العمل والسفر الكثير، وبين فتاةٍ استيقظت لترى نفسها مرتبطة بشخصٍ ليس موجوداً إلا بين أرقام المحمول، يكمن تحدي الاستمرار.
أترك هنا للقارئ الكريم إبداء تقييمه لهذا النوع من العلاقات.