كل يوم يرتفع زئبق المتناقضات في ميزان عناصر طقس الحياة، لقياس حرارة الناس العقلية والباطنية. وفي سوق الأسهم لمعرفة من يربح ومن يخسر.. وكل يوم تزداد المفارقات بين الناس. فالأقلية تتنوَّع صحون موائدها وألوان طعامها وأشكاله. والأكثرية تكتفي بصحن واحد وبعض المقبّلات!
هناك من يصعد دون أن يتدرّج في سلّم الوظيفة.. وهناك من يشقى ويعمل ثلاثين عاماً بصمت. ويكتفي بكرسي من القش أو من الخيزران، وراء مكتب أنهكته الأضابير والأوراق والأختام، والمراجعون الصابرون الذين ينتظرون أجوبة عن معاملاتهم.
وتظهر الصحف اليومية بعناوين عريضة حمراء، دلالة على خبر يحمل الوجهين(السار والضار). والخبران يبهران القارئ، بشكلين من علامات الفرح والحزن، لزيادة في الأجر أو للرعاية (المازوتية) المنتظرة، التي أثر على الإعلان عنها أنها سافرة مكشوفة الوجه، وارتفاع الحرارة التشرينية. أما إذا كتبت المانشيتّات باللون الأزرق فالأمل يبدو أكثر وضوحاً، دلالة على الصفاء والنقاء، وحفاظاً على عيون المتلقي، وخوفاً على سلامة بصره، من التشرّد فوق الأرصفة!
وتظهر التناقضات في الأقوال والحكم والمقالات والأمثال والتعليقات.. كلّها تفرش حروفها وكلماتها، وتعزف على وتر أوجاع الناس.. وينظر كل واحد إلى الحاضر بعين واحدة، وإلى المستقبل (الوضاء) بعينين مجمَّرتين بالفرح.. وكلّ واحد أيضاً يكرّس القسم الأعظم من أحلامه لرغيف ساخن يأكله ويقبل أن يحرق لسانه كيلا ينسى مذاقه.. وآخرون يضطرون أن يبيعوا نصف أحلامهم بسعر التكلفة، وربما بأبخس الأثمان. ويكونوا على استعداد للانخراط في جيش العاطلين من العمل، وتأجيل أحلام السعادة إلى أشعار آخر!
ومن يَعُد بالذاكرة إلى يوميات الناس(من المحيط إلى الخليج) ويقرأ سطور الكلمات والمعاناة، وما بقي طيّ النسيان، فسيجمّد حواس السمع واللمس والشمّ، ليلتقط جمر كل كلمة قبل أن تغسلها دموعه. وإذا استطاع أن يقفل باب قلبه، ويحجر على نبضاته في حفرة مظلمة، فعل!
تناقضات حادة ليس في الأقوال، بل في الثقافات والعلاقات الملوَّنة بالكذب، المبهّرة بالرياء والفساد المختبئ. وهذه هي( ثقافة القول البرّاَنية) أو ما يسمّى بـ (ثقافة النقل والقصّ)، وهي ثقافة في رأي مروّجيها (الثقافة المتنبّئة)، المثبّتة بالبراهين، غير مقلّدة، علماً أنها مصنَّعة في أقبية العقول المظلمة. ويدّعون أنه لن يأتي بعدهم ثقافة أو إبداع، فهم البداية والنهاية.. نصوص غير قابلة للنقاش، تتحول بسرعة إلى نظريات للإلهام.. وهكذا يسير موكب المتناقضات في دروب الإبداع، مترافقاً مع طبول النصر، وأهازيج الفرح، مبشّرة بولادة ثقافة مصونة من التلوّث، محمية من الحسَّاد والتشويه. ويعلم هؤلاء أن هذه الطريق ستؤدي حتماً إلى شلل التفكير، وعقم التأمّل، وازدواجية المواقف، والابتعاد عن العقل السليم، ولكنهم يتابعون السير إلى أن يأتي من يدفعهم إلى حفرة النهاية الحتمية!
وقبل أن يجفّ حبر القلم، ويتلوَّث الكلام بأصباغ المتناقضات، تأكّدتُ أن ذاكرتي ما تزال تحتفظ ببعض ما قاله (ابن حبان)
رأيتُ العقلَ نوعينِ
فمطبوعٌ ومسموعُ
ولن ينفعَ مسموعٌ
إذا لم يكُ مطبوعُ
كما لا تنفعُ الشَّمسُ
وضوءُ العينِ ممنوعُ
وأرى أن التناقض يظهر بين البشر أحياناً، حسب فصول السنة. فالشاب الذي تتألّق بعض أحلامه، ويحقق أسطورة خارقة، حينما يؤمن سكناً ويستقر في البيت الزوجي، يبهره الربيع أيام الشباب، فيعبُّ من نسائمه ما يرطّب قلبه ويشفي غليله، ويملأ رئتيه من عليل المستقبل. وينصح الآخرين بأن يقتدوا به. ولكن حينما يأتي فصل الخريف في خريف العمر، تتعمق التناقضات في داخله وخارجه، كما تتعمق بين الجمال الطبيعي والتجميل المصنَّع من الألوان، وهو يرى أبناءه يتمرَّغون في الشقاء والبحث عن عمل، حينما يعرف أن تكاليف التجميل في العالم العربي، تبلغ ثلاثة مليارات من الدولارات سنوياً، والألوف يتسكعون في شوارع المدن. وفي المقابل ينضمّ الملايين إلى جيش العاطلين من العمل من خريجي المعاهد والجامعات ومن أبناء العمال والفلاحين والكادحين والجياع.
والأمثلة كثيرة، فالأردن يستورد مثلاً من المستحضرات بقيمة 55 مليون دينار سنوياً. ومصر بقيمة تتراوح بين 400 -600 مليون دولار سنوياً. (ولم تذكر الإحصائية سورية). وأنّ استيراد العالم العربي سيزداد بنسبة 12 % خلال السنوات العشر القادمة.
ويرى المهتمون بعلم الجمال والتجميل، أن المبيعات ستتضاعف خلال الأعوام الخمسة القادمة، بسبب ارتفاع الوعي بالجمال في العالم، من خلال ثورة الاتصالات.. فالعولمة قد تسللت إلى غرف النَّوم، وحجزت مكاناً لها في الأسرَّة!