انقلبت الموازين والمعايير، بات الباطل حقاً، والحق باطل، أصبح الخداع والكذب سمةً وذكاءً، والصدق خطيئةً وغباءً، فصرنا نطلق أقسى الأحكام والكلمات والعبارات على أولئك الذين يحملون مبادئ سامية ويسيرون على خطاها ويلتزمون بفحواها ويأملون أن يكونوا قدوة صالحة وحسنة لمن بعدهم، فهم حسب زعمنا: متعنتين، غير مرنين، معقدين
منغلقين على أنفسهم، جاهلين، وغيرها الكثير من الألفاظ التي قد تصل إلى حد البذاءة، وليس كل ذلك إلا لسبب، وهو عدم اتفاقنا مع ما يؤمنون به من أفكار وما يقومون به من أفعال.
ولا نفتأ نطلب ونطالب بالتغيير والتحسين والتطوير وقد نسينا أو تناسينا أن بداية التغيير ومنطلقه هو الفرد ذاته، طبعاً دون إعفاء أحد من المسؤولية، فكل شخص مسؤول ومحاسب حسب مكانته وقدرته وظروفه وما حباه الله من نعم، ولكن لم نوكل نحن لمحاسبة البشر، فمن أراد فعلاً الصلاح والإصلاح عليه أن يبدأ من نفسه أولاً، وليس مطالب بأن يصلح غيره، وكما قيل بالعامية ( عليه من حالو ) فكفانا تنظيراً دائماً وكفانا إطلاق شعارات وكلمات رنانة واتهامات باطلة ومطالب مضحكة دون الوعي لعواقب ما نتفوه به من كلام، وللأسف نحن أبعد ما نكون عن التطبيق العملي وكما يقال ( شو سهل الحكي ).
فمنذ أن كنا تلاميذ على مقاعد الدراسة ونحن نتلقى قواعد ومبادئ السلوك السوي، فقد تعلمنا احترام الكبير والعطف على الصغير، تعلمنا الصدق والبعد عن الكذب، تعلمنا الأمانة والشجاعة .......إلخ.
لكن ما تعلمناه كان نظري بحت، وقد نسي من علمونا أن التعلم بالمحاكاة ( التعلم بالملاحظة والتقليد ) قد يكون أكثر فاعلية من مجموعة المحاضرات والدروس التي تلقيناها ونتلقاها على مقاعدنا الدراسية، فالتعلم بالملاحظة نظرية تفترض أن الإنسان كائن اجتماعي يعيش ضمن محيطه مع الآخرين يتفاعل معهم، يتأثر بهم ويتأثرون به، ويسمح ذلك التفاعل والتواصل بنشوء أنماط سلوكية يلاحظها الفرد وتكون بمثابة نماذج يتم الاقتداء بها.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، قد تأتي المعلمة مستدعية ولي أمر الطالبة (فلانة) لسبب أن الطالبة وقحة ولا تحسن التصرف ولا تستجيب للأوامر التي تملى عليها، وإذا بتلك المعلمة ذاتها تتكلم بالألفاظ البذيئة وتنعت المعلمة الفلانية ( بالمجنونة أو الغبية ) فكيف يعقل لهكذا معلمة أن تكون قدوة لجيل المستقبل، هذا مثال بسيط وعلى نطاق ضيق ولكن ينطوي على معاني كثيرة وواسعة.
أنسيت تلك المعلمة أن التعلم بالملاحظة والتقليد هو من أقوى طرق التعلم وأكثرها ديمومة، ولكني أريد التذكير بتميز تلك النظرية بجانبها الانتقائي لكي لا يقول قائل ويرفع عن نفسه مسؤولية قيامه بسلوك ما زاعماً أنه قد تعلمه عن طريق الملاحظة ومن محيطه ( أحب أن أقول لهولاء )، ليس كل ما يتعرض له الفرد من أنماط سلوكية يتم اكتسابه كاملاً وبحذافيره، وقد لا يتم اكتساب شيء منه، فقد يعمل الفرد على إعادة صياغة وترتيب وتحليل وتركيب لتلك السلوكيات ثم يصدر السلوك الذي يراه ملائماً، وذلك يتوقف على عدة أمور منها: وعي الشخص، ذكاءه، عمره، خبراته السابقة، محيطه الاجتماعي، مبادئه، قيمه، أخلاقه... إلخ.
فقد نبرر ببعض الأحيان لطفل صغير تلفظه ببعض الألفاظ البذيئة والمهينة بحق الآخرين، بناءً على التقليد والمحاكاة، ولكن قد يصعب تبرير شيء كهذا لشاب في الثلاثينات من عمره، وبنفس الطريقة نبرر سلوك خاطئ لشخص جاهل وأمي، وبالمقابل يصعب تبرير سلوك كهذا لشخص متعلم وعلى درجة من الوعي والثقافة.
من وجهة نظر خاصة أرى أن تلك النظرية تتميز بنظرة حيادية، فعلى الرغم من تحميل الشخص الذي يدعى بتلك النظرية (بالقدوة) مسؤولية ما قام به الملاحِظ من تقليد لسلوكه، إلا أن الشخص الملاحِظ ليس معفى من تحمل مسؤولية سلوكه، فهو إنسان يمتلك العقل والوعي والخبرة، وعليه تحكيم عقله والتفكير بحكمة ومنطقية قبل أن يقوم بأي سلوك أو يتفوه بأي كلام، فهو المسئول أولاً وأخيراً عما يصدر منه.
فلا شك بأن الفرد يتأثر سلبياً وإيجابياً بوجوده مع من حوله، وقد يكون تأثره السلبي أكثر وضوحاً وتكراراً من تأثره الإيجابي وذلك بحكم النفس البشرية التي تزين للإنسان بعض الأمور حسب رغبته وميوله كافةً، وقد يجد البعض صعوبة ومشقة بضبط سلوكهم والبعد عن أهوائهم، لكن عليهم أن يعوا إلى أن ذلك مجاهدة للنفس وليس بأمر سهل ولا هين فقد يجد المرء في حفاظه على قيمه وأفكاره وسلوكياته نوعاً من الضعف، إلا أن الإصرار والنية الصادقة خير عون له للقيام بالسلوك السوي النابع من عقل ناضج وليس ناتج عن تقليد أعمى.
وفي الختام أرجو من كل فرد أن يتمسك بمبادئه وقيمه النبيلة، وألا ينتظر تغيير الآخرين، بل يبدأ بنفسه وبالتأكيد سيتبعه الآخرون، وكما قيل: "المرء ليس بصادق في قوله حتى يؤيد قوله بفعله".