بسم الله الرحمن الرحيم
في يوم ما من هذا الزمان كنت أنعم بدفء المكان وأتأمل خيوط الضوء تدخل من النوافذ المحيطة بالمسجد الذي اعتدت أن أصلي فيه . و كنت أراقب دون قصد مني حركات الناس وسكناتهم فأرى هذا يقف متثائبا وذاك يصلي بهمة . وهذا يخطو مسرعا وذاك يكشف عن ساعدين مفتولي العضلات استعداداً للوضوء .
وكانت الخلفية الموسيقية عبارة عن ترانيم رائعة تغنيها جوقة مملوءة إيمان فمن يذكر الله إلى الذي يهلل والذي يسبح . وقراء القرآن الكبار الطاعنون في السن فمنهم من قرب القرآن إلى قبالة وجهه وهو ينظر ويتفحص الحروف بعينه اليسرى تارة واليمنى أخرى حتى يفك رموزها ويقرأ الآيات الشريفة وكلام الله العظيم . ومنهم من يرفع رأسه متفكرا بعظمة الخالق سبحانه . وأكيد بعضهم يطلب العون من الله ويشكي إليه حاله وضعفه . وهكذا . وكم كنت سعيدا وأنا أدرس وأحلل أصغر الأشياء معتبراً ذلك تفكراً في خلق الله العظيم سبحانه . وهنا قطع أفكاري صوت المؤذن ينادي بإقامة الصلاة . ثم صلينا وكنا أكثر من عشرون رجلاً معظمنا جاوز الخمسين من العمر . وعند انتهاء الصلاة أقبل إلي حاج كريم كبير في السن
وقال لي بصوت خافت أجش : لقد ارتكبت خطأً في صلاتك
فقلت : خيراً يا حاج ما هو الخطأ
قال : لما تجلس من بعد السجود أنت لا تثني قدميك بل تجلس على رؤوس أصابعك
فقلت له : جزيت خيراً ولكني معذور فركبتي لا أستطيع أن أثنيها للجلوس فهي تؤلمني جداً .
قال : ولكني رأيتك في أثناء الصلاة قد ثنيتها مرة . ومرة أخرى لم تثنها فأنت تستطيع .
قالها بلهجة من يتهمني بالكذب وبحدة .
فقلت : يا حاج أنا أشكر غيرتك على الصلاة وعلي . ولكني أحياناً أنسى فاثنيها فيشغلني الألم عن حضور القلب في الصلاة .
فقال لي : إذن لا تنسى وتثنيها لأن صلاتك غير مقبولة .
فقلت مستهجناً : لست أنت من يقرر أنها مقبولة أم لا .. ثم أنت ارتكبت خطأ أكبر من خطأي في الصلاة .
فقال وهو يبدي انزعاجه من هذا الذي خالفه الرأي بل ورد عليه اتهامه باتهام أكبر . ماذا تقصد أنا عمراً كاملاً أصلي هنا ولم يقل لي أحد أنني أخطئ في صلاتي .
فقلت له : يا حاج على رسلك .
أولاً أنت حفظك الله كنت مشغولاً عن صلاتك بمراقبة حركاتي وجلوس الاستراحة بعد السجود في كل ركعة أصليها . وهذا صرف قلبك عن الحضور والتفكر في من تصلي له إلى التفكر كيف ستوجه لي الكلام بعد الفراغ من الصلاة .
ثانياً أنت ترفع صوتك الآن في المسجد وهذا مكروه جداً .
ثالثا يا حاج لم تنهاني عما أفعل بالحكمة والموعظة الحسنة بل صدقاً لقد تأذيت من طريقتك في توجيه النصح لي ولولا كبر سنك لرددت بشكل مختلف .
هنا أحتد وقال : أنت جديد هنا وأنا أصلي منذ أكثر من عشرين عام في هذا المسجد ثم أنني ساعدت في بنائه وممكن أنك لم تكن قد ولدت بعد .
ولم يعد يسكت وصار الكلام كالمطر المنهمر شيء بمعنى وشيء بلا معنى .
في الواقع أدركت هنا أنني كان يجب أن أعترف له بالذنب من البداية وأقوم فأصلي لله ركعات وأوهم صاحبنا أنني أعيد الصلاة ولكن كانت قد وقعت الواقعة .
فاعتذرت له ووعدته بإعادة الصلاة . وكانت نظراته الحادة تخترق عظامي وهو يمضغ الفراغ في فمه وفكاه تتراقصان غضبا وأسنانه تصطك حنقاً من قلة أدبي .
ومن يومها صار يراقبني ويتربص بحركاتي فأراه ينظر من تحت نظاراته السميكة مرة . ومرة أخرى من وراء المصحف الذي يكون في يده خلسة . وكان يستدير معي وأنا أمر من جانبه . حتى شعرت أنني لا أصلي خوفا من الله بل خوفاً من صاحبنا .
طبعا لست منزعجاً من هذا الأمر. بل هو يضحكني وكم أحب هذا العجوز الطفل وكم أحب غضبه ومراقبته لي فأنا صرت مادة تشغل الفراغ الذي يعاني منه حتى أني صرت أداعبه فأرتكب بعض الأخطاء قصداً فيثب إلي ويقول أرأيت أنك مخطئ . أنت بحاجة للتعلم من جديد كل ما تفعله خطأ .
اللهم عمرنا في الأرض إلى أن ترى أننا أهل للقائك فاقبضنا إليك بكامل عقلنا ولا تبتلنا بذهاب المدارك فهو والله أعظم بلاء . أطال الله بعمر صاحبنا (مراقبي في المسجد ) .
وفي عمركم أحببت أن أروي هذه القصة لكم أخوتي .