news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
مقالات
نقطة توازن بين اقتصاد السوق والاقتصاد الاجتماعي... بقلم : رشا سيروب

تسعى هذه الدراسة إلى بحث النهج الاقتصادي المتبع الذي أدى إلى نشوء حركة الاحتجاجات في سورية التي جاءت مفاجئة للشعب وللقيادة ولصناع القرار


ولكنها لم تكن كلك بالنسبة للمفكرين الاقتصاديين وعلماء الاجتماع؛ لم تشكل الأوضاع الاقتصادية بشكل عام، ولا الفروق الاجتماعية بشكل خاص، ولا حتى التغيرات في السياسات الاقتصادية سبباً لحراك سياسي أو اجتماعي في العقود الثلاث الأخيرة، لكن من الواضح أن حركة الاحتجاجات بشكل عام (باستبعاد الشق الأمني) كانت نتيجة النظام الاقتصادي المتبع في السنوات العشر الأخيرة، حيث ابتعدت الدولة عن أداء الكثير من المهام والمسؤوليات التي أوكلتها إلى القطاع الخاص دون رقابة أو حتى إشراف وتوجيه. وبعبارة أخرى الهدف من حركة الاحتجاجات والحراك الاجتماعي والسياسي الحاصل هو دفع النظام الاقتصادي الاجتماعي إلى نقطة توازن جديدة بين اقتصاد السوق والاقتصاد الاجتماعي، تتناسب واحتياجات الشعب السوري والدولة من جهة، ومطالب واحتياجات رجال المال والسلطة من جهة أخرى.

نقطة توازن بين اقتصاد السوق والاقتصاد الاجتماعي:

ينطلق تحليلنا من فرضية أن حركة الاحتجاج الحالية تصب في سياق المحاولة لخلق نقطة توازن جديدة بين مقتضيات اقتصاد السوق الحر والاندماج في الاقتصاد العالمي من جهة، وبين الحاجة إلى حد أدنى من الرعاية والضمان الاجتماعي(عبر توفير الدولة خدمات عامة واجتماعية) وتحقيق رفاهية المواطنين من جهة أخرى؛ بكلمات أخرى، هي حركة البحث عن توازن بين مفاهيم تضخيم الربح والمصلحة الشخصية والفردانية في اتخاذ القرار وبين نظام يكبح جشع الأسواق لصالح التكافل الاجتماعي والمصلحة العامة.

 

إن قراءة متأنية لما حصل، ويحصل في سورية، منذ بداية اندلاع حركة الاحتجاجات، يمكن أن تضعنا أمام حقائق توضح لنا صورة الأحداث، صورة تنطلق من رؤية شفافة لما جرى من تحولات فرضتها مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية المتصلة بالتطورات الاقتصادية والاجتماعية العالمية من جهة وبشكل النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتبع داخلياً وما اتصل به من إخفاق لعقود التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مما دفع، إلى جانب عوامل أخرى سياسية، إلى انتهاج السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي توصي بها المؤسسات الدولية (برعاية وتوجيه الولايات المتحدة) وينصح بها الاتحاد الأوروبي.

 

يأتي هذا الحراك بعد توسع النظام الرأسمالي أفقياً وعمودياً في الاقتصاد والمجتمع بحيث فاق ما يمكن أن تتحمله الطبقات الوسطى؛ ويندرج في سياق تزايد مؤشرات تآكل مصداقية نظام السوق ومناعته في أعقاب الأزمات المالية والاقتصادية العالمية، وبشكل خاص بعد أزمة الديون عام 2008، التي نشأت على شكل أزمة مالية والآن نحصد تبعاتها كأزمة اقتصادية تمس القطاع الحقيقي وليس فقط القطاع المالي والخدمي.

 

وليس البحث عن نقطة توازن بين اقتصاد السوق والاقتصاد الاجتماعي شيئاً مستحدثاً في الاقتصاد السوري، فقد لازمت هذه النقاشات والخلافات والتوازنات المجتمع السوري منذ بداية الانفتاح عام 2000 مروراً في عام 2005 عند إقرار اقتصاد السوق الاجتماعي في المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي ولغاية اليوم مازال النقاش دائراً حول السؤال المطروح ما هي النقطة التي يمكن أن تحقق التوازن بين اقتصاد السوق والاقتصاد الاجتماعي؟ وما هي النقطة التي يمكن أن تقبل بها الطبقات الوسطى وفي ذات الوقت يضمن لرأس المال العمل في إطار تنافسي حر وليس احتكاري؟ لكن للأسف كانت الغلبة دائماً للسياسة الاقتصادية الانفتاحية بدون قيد أو شرط لصالح أهداف السياسة الخارجية من جهة ولتحقيق مصالح الأقلية المستأثرة بالمال والسلطة، دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح الأغلبية الساحقة (عمال – فلاحين- صغار كسبة- برجوازية وطنية)، التي كانت دائماً تشكل الحامل الاجتماعي الداعم للاستقرار في سورية، لكن بدل ذلك أصبح الحامل الاجتماعي يتكون على نحو أساسي من تحالف رجال الأعمال الجدد والفئة العليا من البيروقراطيين، والفئة المستفيدة من التحولات الاقتصادية الجارية باتجاه اقتصاد السوق، هذه السياسات المطبقة دلت على براغماتية السياسة والفكر الاقتصاديين لدى صناع القرار في سورية.

 

إلا أن النهج الذي كان متبعاً ما قبل عام 2000، اعتمد سياسة اقتصادية اجتماعية غلب عليها الطابع الاجتماعي الاشتراكي الذي يكون فيه للدولة دور محوري دون أن يلغي تماماً وجود القطاع الخاص ووظائفه؛ فقد كان النظام السياسي الاقتصادي المتبع نظام اشتراكي (وفق دستور الجمهورية العربية السورية في المادة 13 منه)، من حيث سيطرة الدولة على الموارد الاقتصادية وعلى رأس المال وعلى الصناعة، مع إدراك الحاجة إلى أهمية المحافظة على قطاع خاص، ولو صغير ومحدود ومتعلق بموارد الدولة؛ لكن سيطرة الدولة على الاقتصاد والصناعة والمبادرات والتطوير قللت من أهمية قواعد السوق الحرة وعززت الفصل بين السياسة والاقتصاد.

 

وعلى الرغم من طرح فكرة اقتصاد السوق الاجتماعي، إلا أن سياسات سورية الاقتصادية والاجتماعية لم تستوعب مفهوم دولة الرفاه، على سبيل المثال، لم يتعاطف صناع القرار مع فكرة تطبيق برنامج الرعاية الاجتماعية وضمان حد أدنى من الدخل ودراسة مخصصات للبطالة (التي نشأت بالأساس-البطالة- من تطبيق سياسات خاطئة في الدولة، سواء من حيث عدم خلق مشاريع تشغل يد عاملة كبيرة، أو من ناحية عدم ربط المخرجات التعليمية مع مدخلات السوق).

 

استمرت الحكومة السورية في اتباع سياسة اقتصادية تميل إلى الاشتراكية حتى بداية عام 2005، بعدها بدأ التحول باتجاه نظام السوق الحر والاقتصاد الليبرالي (رغم عدم التصريح بذلك)، حاولت السياسات الاقتصادية الليبرالية جذب أكبر حجم ممكن من الاستثمارات الخليجية والعربية والسورية المغتربة وحتى الأجنبية، ورفعت وتيرة إعادة هيكلة الاقتصاد السوري واستعداد الحكومة للانسحاب من أي مجال يستطيع فيه القطاع الخاص أن يستثمر؛ النتيجة كانت انخفاض الاستثمار العام إلى أدنى حد، مقابل ارتفاع مساهمة القطاع الخاص بنسبة تتراوح بين 65-70% من الناتج المحلي بحيث أصبح هو قاطرة النمو، وفعلاً تمت إعادة هيكلة الاقتصاد السوري وجذب الاستثمارات الخارجية ولكن توجهت التدفقات الاستثمارية الداخلة إلى سورية إلى القطاعات الخدمية من سياحية وعقارية ومالية والتي تقع جميعها ضمن إطار الاقتصاد الريعي، وابتعدت عن الاستثمار قي القطاعات الحقيقية المتمثلة بالزراعة والصناعة؛ لقد كانت الصناعة والزراعة آخر اهتمامات المستثمرين في الوقت الذي لم تسع فيه الحكومة لسد هذا النقص في الاستثمار الحقيقي، بل على العكس تماماً انسحبت من إصلاح القطاع العام الصناعي على الرغم من كون هذا القطاع يشكل العنقود الاقتصادي بترابطاته الخلفية والأمامية والتي تشكل أساس التغيير الهيكلي الاقتصادي – الاجتماعي، والتقليل من حجم الهجرة وخلق فرص عمل هائلة.

 

منذ ذلك الحين بدأت الدولة تتنازل عن دورها المركزي في إدارة الاقتصاد والتخلي عن أجزاء من وظائفها الاقتصادية لصالح الشريك الجديد "القطاع الخاص ورأس المال الدولي" باعتباره سيحل محلها في خلق فرص عمل وتنشيط الاستثمار الحقيقي، لكن للأسف أصبحت مسؤولية الدولة فقط ضمان الظروف المطلوبة لتوفير بيئة عمل مريحة وسياسة مالية ونقدية ملائمة للاستثمارات الدولية والخاصة، النتيجة كانت زيادة مطردة في لبرلة العملة والأسواق، ومسخ مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي إلى تحرير التجارة مع تجميد الصناعة، وانكشاف متزايد على الأسواق الدولية، ازدياد معدل البطالة، ارتفاع دخول طبقة قليلة مع انحسار الطبقة الوسطى وتراجع في دور المثقفين والمفكرين، وتوسع في العشوائيات وانتشار اقتصاد الظل برعاية الحكومة وانبثاق الفساد كظاهرة لا حل لها.

 

منذ تلك الفترة، حصلت تطورات هامة في ساحة النشاط الاقتصادي ومكوناته، حيث باتت تُلحظ حركة باتجاه اقتصاد الاستهلاك وجو أكثر ودية للمبادرة في حقل الاستثمار، وبدأت الأيديولوجية الاقتصادية للدولة تميل أكثر فأكثر إلى عولمة الاقتصاد وقوى السوق، وبدأت تتنازل عن فكرة أن الدولة هي المسؤولة المباشرة عن الرفاه الاقتصادي والاجتماعي.

 

هذا الانتقال إلى نظام حكم اقتصادي-نيو ليبرالي وهيمنة نموذج "نيو-ليبرالي ما بعد الرأسمالي"، كان من أبرز ملامحه: تراجع القطاع الاقتصادي العيني وتصاعد في نشاط الاقتصاد المالي والنقدي والسياحة والمضاربات العقارية وأعمال الخدمات المرتبطة بذلك، تراجع دور الدولة عن التدخل في السوق، وتقليص الضرائب المباشرة على الشركات مقابل ازدياد الضرائب غير المباشرة (سواء عن طريق فرض رسوم تحت مسميات مختلفة أو عن طريق تخفيض الدعم باتجاه إلغائه دون خلق قوة شرائية للمواطن يقابل هذا التخفيض)، الحفاظ على مستوى أجور متدنٍ بحجة توفير مناخ ملائم لجذب الاستثمارات الأجنبية والعربية.

 

كل ما سبق يؤكد أن الشأن الاقتصادي والاجتماعي لم يكن يشكل أولوية في سورية (كنا نجدها فقط من خلال الخطط الخمسية المتعاقبة- ونفس المقدمات المطروحة في بيان الحكومة المالي لكافة السنوات)، كانت الأولوية تحقيق الأمن الداخلي وتحسين العلاقات السياسية الخارجية مع إغفال حقيقة أن الأمن الداخلي لا يعني فقط الأمن العسكري، بل يجب أن يشمل الأمن الاقتصادي، الأمن الغذائي، الأمن الصحي، الأمن المائي، وأن إغفال العلاقات السياسة الداخلية (بين الدولة والمواطن) تشكل شرخ هائل بينها نع انعدام الثقة والتشكيك بكل ما يصدر عن الدولة.

يجب على الدولة أن توجد ما يمكن تسميته المحاسبة الاجتماعية، يمكن أن نعرفها بمعاقبة الحزب الحاكم أو مكافأته بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي آل إليها البلد خلال فترة الحكم، وإقالة ومحاسبة الحكومة على سوء تنفيذ ومتابعة تطبيق القوانين.

2012-02-15
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد