news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
الحنشل طراد وحسن الجمَاسي ... بقلم : الشيخ عبد القادر الخضر

لم تكن سيارات التكسي بمدينة حلب من الكثرة في بدايات القرن الماضي فعامة الناس تستخدم الدواب إلا الميسورون منهم ..


وكانت السيارات يمكن أن تباع بدون أوراق إثبات الملكية ، وكان بعض اللصوص يقوموا بسرقة السيارات من لبنان ويبيعونها في سوريا ويسرقونها من سوريا وتباع في الأردن وهكذا ؟

 

وكان الشاب حسن الجماسي الظاهري من سكان حلب وكان وحيدا" لأمه الأرملة على نصف دزينة من البنات  وكان حسن اسم على مسمًى في الخلق والشكل واللباقة والسيرة،  وكان سعيدا" في عمله، وهو أسعد بأسرته فقد كانت أخواته يزفنه كالعريس لدى عودته إلى البيت من عمله من الباب حتى المنطرة وهي ساحة مبلطة بالحجر بوسطها بحرة ينفر الماء منها في البيوت الحلبية القديمة وهي أبرد نقطة في البيت وخاصة في فصل الصيف

 

 من عادة حسن عند الساعة التاسعة صباحا يشتري مستلزمات البيت من الخضار والخبز،  وحينما اقبل على سوق بانقوسا الشهير أشار له رجل كبير الجثة فارع الطول متوسط العمر مميز بشاربه الطويل ولحيته الكثة الشعر وعيناه اللواتي تتقدان بالشرر لقد كان اقرب للعفاريت منه للبشر وحسب روايات العجائز لأمثاله بسرد قصصهن للأطفال كان كالحنفيش ؟ توقف حسن بمكانه أمام الرجل لأن الطريق مزدحم بالحمير والبغال وعربات الجر الحناتير اقترب الرجل الطويل من سائق التاكسي وانحنى وبصوت كفيحيح الأفعى قال :

 

 أريد منك أن توصلني إلى منطقة الجبول ؟ هناك لي رفاق أريد رؤيتهم وهم ينتظروني وكم تكلف السفرة أدفع لك لم يرتح حسن للرجل لكنه في قرارة نفسه كان شجاع ومشهود له بالصراع مع شباب الحارة في باب الحديد، وقرلق، وعدة أحياء من حلب، واخرج الرجل الطويل رزمة من الليرات السورية حينما رأى تردد حسن بقبول عرضه  بلع الطعم حسن وقال له أريد خمس ليرات وهذا المبلغ يعادل عمل أسبوع له في المدينة وافق الطويل فورا" وفتح الباب وجلس بجانبه وأمال السيارة من ثقل وزنه !

 

قال له حسن :

 رمضان كريم فأنا صائم وأسرتي، وأطلب منك أن تمنحني بعض الوقت لأشتري لعائلتي مستلزمات طعام الإفطار رد بسرعة الرجل الضخم وهو يتمطى بمقعده خذ راحتك طالما نحن سنسير بعد ذلك  نزل حسن إلى قصاب { اللحام } معين كان والده يشتري منه لحمة البيت وبجواره عدة محلات لبيع الخضار واشترى كل ما طلبته أمه ولم ينس أن يذهب إلى الفرن ويشتري الخبز الفقش،  الذي كانت رائحة المحلب وحبة البركة تفوح من أرغفته برائحة زكية تفتح شهوة الإنسان ليأكل ذاك الخبز بدون ايدام .

 

أحس حسن بانقباض في صدره لكنه توكل على الله وغره ثقته بنفسه بأنه عكيد الحارة بدون منافس حتى الآن ولم يظهر من لوى ظهره أو رماه أرضا" أدخل الحاجات التي اشتراه وودع والدته وزوجته وأخواته الصبايا والصغار مع بناته الاثنتين، ونظر باتجاه أمه الصالحة والتقت عيونهم مع بعض وكأنما أمه استشفت أنه يطلب منها الدعاء له في هذا اليوم الرمضاني الكريم فرفعت يديها إلى السماء وقالت :

 

الله يكفيك شر الناس وأسأل الله العظيم بحق اسمه العظيم أن يحميك ويردك إليً يا ولدي سالم غانم، وأحس بوحشة من هذه السفرة، وخرج من بيته، وجلس خلف المقود ودعا دعاء السفر وزاد عليه آية الكرسي من سورة البقرة، وتمتم أدعية كثيرة في قلبه لأن الرجل الجالس بجنبه كان صامت لا يتكلم إلا بقوله :

  بسرعة خلينا نطلع من حلب تأخرت قبل مغيب الشمس

 

لم ينتبه حسن إلى وجه الراكب الذي يديره ويخفيه كلما صادفهم دركي ( شرطي ) بالطريق،  ووصلوا إلى طريق البادية الذي يصلهم بمنطقة بحيرة الجبول والتي كانت تزود سوريا والبلاد المجاورة بالملح الجبولي الشهير النقي والمستساغ في الأطعمة لقد بشر الموسم على بدايته ! وكلما أوغل بالصحراء وهو يسير على طريق ترابي مميز بحوافر الحيوانات أكثر من أثر عجلات السيارات ! وما إن توغل في بادية الجبول بقرب البحيرة حتى دب الرعب في فرائصه وكاد يكشف نفسه للراكب !! الذي كان كلما أوغلوا بعمق الصحراء كلما انفرجت أساريره !  

 

كان يرقبه من زاوية عينه وفي مكان منخفض قريب من البحيرة طلب من الراكب الوقوف !! فتوقف على مهل وعينيه تدور في أنحاء المكان فقال في نفسه لا طير يطير ولا حتى وحش يسير !! ما هذا المكان المغفر يا رب أسالك العون ! قال حسن بعد أن استجمع قوت أين رافقك الذين ينتظرونك !! رد الراكب وصلنا هذا موعدنا بهذا المكان وقهقه فبرزت أسناه السوداء التي لا شبيه لها سوى أنياب الذئاب ! وفجأة أشهر مسدس كان يخفيه بطيات ثيابه وطلب من حسن النزول من السيارة وأن يرفع يديه وينبطح على الأرض وهو مباعد مابين رجليه ! لقد كان يقهقه ويزمجر أحيانا" لقد انقلب إلى هيئة وحش  ولا يمت للإنسانية بصلة ! نفذ حسن ما

 

طلب منه هذا الوحش لكنه استدار ناحيته وهو يقول خذ ما عندي من المال وخذ السيارة واتركني أعيش لنسوة وبنات صغار ليس لهم معيل غيري !!

تكلم بصوت جلي الراكب وهو يقهقه ما سمعت عن طراد اكبر حنشلي في سوريا

 

رد حسن بلى ولكني حسبتك رجل محتاج لمساعدة ؟ قهقه طراد ثانية وهو يزأر كالوحش متوعداً ؟ ردد قوله حسن وهو يستعطفه خذ السيارة وما عندي من نقود وبيني وبينك عهد الله لن أشي بك أو أفتح فمي بكلمة عنك فقط اطلب منك أن لا تقتلني من أجل عائلتي ؟

 

قهقه طراد وصاح انت ما تعرف طراد كبير الحنشل في بادية حلب بعمره ما عفى عن أحد ؟ ولكن من أجل خاطرك سوف أقتلك قتلة تليق بدعائك واسترحامك لي  وأخرج من داخل ثيابه حبل رفيع متين كان يخفيه تحت طيات ملابسه،  وجلس على ظهر حسن , حاول حسن التملص من وزنه والانقلاب عليه ليصارعه لكن طراد كان مسيطر عليه بشكل تام وكل محاولات وحركات عكيد الحارة باءت بالفشل

 

واتجه حسن ببصره إلى السماء وهو يتمتم بدعاء الله سبحانه وتعالى ويقول بقلبه يا مغيث أغثني ؟ يا مغيث أغثني ؟ واستطاع طراد تكتيف حسن وتركه جثة على الأرض المملحة بطبقة رقيقة من الملح مما زاد في معاناة حسن وزيادة على هذه المعاناة من تأثير الصوم، وقهقه طراد وهو يقول كثيرين غيرك أجيبهم إلى هذا المكان وأقتلهم بطلقة واحدة على الرأس وأذهب بالسيارة إلى بيروت وأبيعها هناك، ولكني سوف أقتلك بدون رصاص لأنك وجعت قلبي وقهقه ضاحكا" مستهزئا" سوف أهشم رأسك تهشيم حتى تموت !

 

ولم يكن في هذه الأرض المنبسطة مثل راحة الكف على مد البصر أي شيء بارز سوى صخرة كبيرة يمكن حملها فأرجع طراد مسدسه وأخفاه في ملابسه وذهب باتجاه الصخرة،  وحاول اقتلاعها من الأرض ليحملها حتى يضعها على صدر حسن ليقتله ببطىء وهو يقهقه،  وفجأة صرخ صرخة عظيمة ورمى بالصخرة من يديه، وهرول باتجاه حسن المكب على وجهه المربوط من يديه ورجليه  كان يصيح ويصرخ كمن مسه طائف من الجن ! وسقط على الأرض بعيدا عن حسن عدة أمتار  فاقد الحركة ساكنا" والزبد يخرج من فمه المفتوح كالمغارة، وعيونه كعيون عفاريت العجائز { السعلوات } في القصص المروية عنهنً للأطفال استطاع حسن أن ينقلب ويستطلع الموقف الذي أصبح فيه ورأى على البعد أفعى رقطاء عادت إلى ظل الصخرة التي حاول طراد اقتلاعها ليقتله بها ولكن القدر له جنود مخفية تتحرك بإرادة السماء متى تشاء !

 

كان حسن يدعو الله حينما كان يشد وثاقه طراد وأيقن لا ملجأ ولا معين إلاً الله بهذه المحنة، والسماء أبوابها مشرعة لتلقي الدعاء وعلى الخصوص من المظلوم والصائم

 

حاول بشتى الوسائل أن يفك وثاقه أو يقطع الحبل لكنً محاولاته باءت بالفشل ! فأيقن أنه ميت من العطش في هذه المملحة،  وبينما يرقب الأفق بعينيه لاح له بارق أمل فقد رأى قفل بدو مار باتجاهه وما هي إلاً فترة من الزمن حتى وصلت طليعة القافلة بقربه وهرعوا إليه مسرعين ففكوا وثاقه وسجد لله شكرا" { ويقول بسره أيضاً هؤلاء من جند المغيث أهل   سبحانه وتعالى }  وقام بمساعدة البدو بجمل جثة طراد ووضعها بصندوق السيارة، وودع رجال البدو منقذيه، وشكرهم وعاد إلى مدينة حلب وبالتحديد إلى قسم الدرك { الشرطة }  في باب الفرج وسلًمهم الجثة وعرفوه ! وكانت الحكومة السورية قد وضعت جائزة نقدية لمن يسلمهم طراد حيا" أو ميتا" فأخذ الجائزة منهم وأنفقها في سبيل الله على الفقراء والمحتاجين، وارتاح لعدة أيام معتكفا" بالمسجد حتى العيد وقام بمعايدة شباب الحارة وكانوا يخاطبونه بالعكيد فقال لهم إنا من اليوم تنازلت عن هذا الاسم وأصبحت الطليق من المغيث سبحانه وتعالى   وقص عليهم قصته مع طراد وكبر وعظم بعين اقرانه ليس بقوته فحسب بل بصدق إيمانه بالله، وقال لأقرانه الدعاء قوة كامنة تتحرر لطالبها إن كان صادق الإيمان ومظلوم .

 

 وأنا أشهد  رويت لي هذه القصة منذ أكثر من أربعون عاما" وهي حقيقة وليست قصة من نسج الخيال .

 

2012-02-29
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
مساهمات أخرى للكاتب
المزيد