تعتبر الماء العنصر الرئيسي في الحياة وتعتمد عليها جميع نشاطات الإنسان من أصغرها إلى أكبرها وبدون ماء لا توجد حضارة ولا حياة.
تتجلى أهمية الماء بشكل عام في كونها:
- المكون الرئيسي للأجسام الحية (حتى 98 بالمئة في بعض الكائنات)
- المادة الوحيدة والفعالة بامتياز في إطفاء عطش الإنسان والحيوان والنبات.
- الوسط الذي تتم فيه جميع التفاعلات الاستقلابية لكل الكائنات الحية.
- العامل الأهم في الاقتصاد والبيئة والزراعة والأمن الغذائي لأي بلد.
- مادة التنظيف والتطهير الأكثر شيوعاً واستخداماً وفعالية.
رغم أن ثلاثة أرباع سطح الكرة الأرضية مغطىً بالماء (97 بالمئة مياه مالحة و3 بالمئة فقط مياه عذبة)، ورغم أن كميتها ثابتة نظرياً في الغلاف الجوي إلا أن نسبة توزعها وتوفرها تختلف من مكان إلى آخر بسبب الظروف البيئية والموقع الجغرافي إضافة إلى كثير من الأساليب والطرق المتبعة في استغلالها وقلة الوعي الذي يساهم أيضاً في تكريس ندرتها وسوء نوعيتها ومدى صلاحيتها للشرب.
تستحق الماء برأيي وبدون منازع لقب "الذهب الصافي" وليس فقط "الذهب الأزرق" لأننا لا نستطيع العيش بدونها وهي أغلى وأهم من كل الموارد الأخرى كالنفط أو الذهب أو الأحجار والمعادن الثمينة التي نستطيع العيش بدونها ولكن لا نستطيع العيش بدون ماء. وقد لا يخطئ كثير من المختصين والمهتمين ممن يعتقدون الآن بأن الحروب القادمة ستكون بلا شك حروباً بسبب الماء.
فيما يلي بعض الاقتراحات التي قد تبدو للوهلة الأولى بسيطة أو معقدة لكنها ضرورية جداً وملحة للحفاظ على الماء في وقت نحن فيه بأمس الحاجة إلى كل قطرة منها للحفاظ على أهم ثروة طبيعية للبشر نعاني بالأساس من نقص حاد وكبير في كميتها في منطقتنا العربية.
عدم استخدام ماء الشرب في التنظيف وكثير من الأعمال المنزلية: من المتناقضات الشديدة السائدة في بلادنا أنه رغم ندرة الماء فإننا نستخدمها بشكل عشوائي في أمور كثيرة يمكن أن نستغني فيها عن ذلك. إذ كثيراً ما تستخدم ماء الشرب مثلاً في تنظيف أرضيات المنازل والأدراج والأسطحة وأمام البيوت والشوارع والسيارات ..الخ وهذه التصرفات تعد جريمة أخلاقية تستحق الوقوف عندها مطولاً لتنظيمها بشكل جيد ومنع استخدام الماء في تلك الأمور.
من المفارقات الجيدة التي لاحظتها في الدول الغربية أنه رغم توفر الماء بكثرة إلا إنهم لا يستخدمونها في تنظيف البيوت أو الأسطحة والأدراج كما هو الحال لدينا. فالقاطن في الغرب لا يلاحظ مثلاً وجود بلاليع داخل البيوت حتى في أغنى بلدان العالم بالمياه وإنما يتم التنظيف بالشفط أو المسح بقطعة قماش مبللة بالماء المخلوط مع مواد التنظيف. ولهذا يجب إلغاء البواليع من منازلنا لأن وجودها يغري باستخدام الماء وبالتالي الهدر.
قد يقول قائل إن السبب هو كثرة الغبار لدينا يحتم استخدام الماء، ليس بالضرورة لأن الحل ليس بهدر كميات كبيرة من الماء في الوقت الذي يمكن التخلص فيه من الغبار والأوساخ بالمسح بقماش مبلل في سطل صغير من الماء ومسحوق أو سائل التنظيف المناسب. كما لو يتم استخدام مياه التنظيف وتكاليف انتاجها وتوزيعها في زراعة نباتات وتعبيد الطرق وتزفيت الشوارع لانخفضت أيضاً مستويات الغبار بشكل كبير.
ـ منع غسيل السيارات منعاً باتاً والاستعاضة عن الماء بالتنظيف الجاف بالهواء المضغوط. وإن كان لا بد من الغسيل من وقت لآخر (وليس مراراً وتكرارا)، فيمكن الغسل بواسطة إسفنجة مبللة مع سائل تنظيف مناسب أو بواسطة بخار الماء. هل من الضروري غسل سيارة من الخارج كل أسبوع أو كل شهر بما يزيد عن 100 ـ 300 لتر من الماء؟ كلا، هذا غير مبرر أبداً في بلد يعاني من نقص حاد في المياه.
لنتخيل عدد السيارات التي يتم غسلها سنوياً في سوريا ونحسب كمية الماء المستخدمة في ذلك سنجد أرقاماً فلكية وهدراً فظيعاً للماء التي يمكن توفيرها لاستخدامات أكثر حيوية من غسيل السيارات. لذا يجب تشميع مغاسل السيارات أو أن تستخدم فيها مياه مكررة وليس مياه الشرب وتغريم المخالفين بأموال كبيرة ورفع سعر غسيل السيارات إلى مستويات كبيرة تُثني عزم كثير من الناس عن الغسيل.
ـ منع الري العشوائي للمحاصيل الزراعية والحدائق والمزارع الخاصة ونشر الوعي ونصح الفلاحين بإجراء عمليات الري في الصباح الباكر أو المساء حيث تكون أشعة الشمس أقل شدة فيخف التبخر وهدر الماء.
ـ إعادة تدوير وتكرير الماء لاستخدامها في الري وفي كثير من الاستعمالات المنزلية والصناعية التي لا تتطلب مياهاً صالحة للشرب. فلو علمنا أكثر من نصف الاستخدامات المنزلية لا تتطلب استخدام ماء صالحة للشرب، لأدركنا أهمية استعمال مياه مكررة لتوفير المياه النظيفة للشرب فقط.
ـ ترشيد استخدام الماء في البيوت ودورات المياه: حيث تعتبر دورات المياه أحد أكبر أماكن تبذير وإسراف الماء في المدينة ويزداد الأمر سوءاً إذا كانت هناك حنفيات مفتوحة باستمرار. يمكن التقليل من الهدر بتركيب حنفيات ضغط أو تعمل بالأشعة تحت الحمراء لتعطي الماء فقط عند تمرير اليد أسفلها.
كما يجب العمل على تركيب أدوات تعطي مستويين من الجرعات المائية: مستوى خفيف يستخدم بعد التبول (بالضغط على زر صغير مثلاً) ومستوى آخر لإعطاء جرعة أكبر تستخدم بعد قضاء الحاجة. كما أن التنظيف على مرحلتين باستخدام محارم (في المدن) أو حجارة (في الأرياف) قبيل الاستنجاء بالماء يعتبر عملية هامة في توفير كميات كبيرة من الماء لأن تنظيف السبيلين جافين يستهلك ماءً أقل مما لو استخدمت الماء مباشرة بعد التغوط.
ـ المعالجة السريعة لأي تسرب في أنابيب المياه. على مؤسسة المياه في كل المدة وضع أرقام هواتف مجانية للاتصال بها وإعلامها عن أي تسرب في شبكاتها للتصرف بسرعة ووقف الهدر فوراً.
ـ إلغاء وتشديد الإجراءات على المسابح الخاصة ومراقبة استهلاكها للماء وتقليل منح رخص المسابح بشكل عام. لأن أصحاب البطر والقصور الخاصة هم من أكثر الناس هدراً وإسرافاً للماء سواءً في استخداماتهم اليومية أو الترفيهية. يجب إذن إغلاق المسابح في قصور الأغنياء والمرفهين إن لم يكن بشكل نهائي فعلى الأقل بشكل دوري.
فالأمر خطير ولا وقت للمحاباة أو التهاون. والضرورات أهم بكثير من الرفاهيات. فتوفير الماء للشرب أهم من توفيرها لأصحاب المسابح وحمامات البخار الساخن (السونا). وما زاد استهلاك أحد من الماء إلا على حساب حرمان الكثيرين منها.
ـ الجلي اليدوي بدل الآلي للأواني والمواعين في المنازل وعدم ترك الحنفية مفتوحة أثناء الجلي يوفر كميات كبيرة من الماء مقارنة مع الجلي بالآلات.
ـ تقليل صناعة واستهلاك المشروبات الغازية لأنها مستهلك كبير للماء ولا تغني عنه في إطفاء العطش، ومن ناحية أخرى لها ضرر كبير على الصحة.
ـ إنشاء سدود وخزانات لاستقطاب وتجميع كل قطرة من مياه الأمطار والسيول في المدن والأرياف لاستخدامها في الزراعة والاستعمالات المنزلية بعد معاملتها وتنقيتها من الشوائب والأوساخ.
ــ زيادة أسعار استهلاك الماء بعد حد معين باعتماد مبدأ الشرائح في التسعير: كأن يكون مثلاً سعر الماء ثابتاً ومنخفضاً للكميات التي تغطي احتياجات الفرد الضرورية يومياً ثم بعدها يتضاعف السعر أو يضرب بثلاثة أو حتى 10 أو 100 للاستخدامات الترفيهية التي تزيد عن الحد الأدنى الضروري للاحتياج اليومي من الماء لمنع أي إسراف وهدر من قبل الأغنياء واللا مبالين الذين لا هم لهم وليس عندهم الوعي الكافي والحس بالمسؤولية عن مدى خطورة هدر الماء.
ـ التقليل أو عدم الزراعة السنوية المتكررة للمحاصيل الزراعية التي تستهلك كميات كبيرة من الماء (كالقطن والذرا الصفراء..).
ـ الشمس والهواء وسيلتان مطهرتان تماماً ومنظفتان يمكن أن يعيضا عن استخدام الماء في أمور كثيرة جداً.
وعلى المستوى الشخصي، يمكن اتباع بعض الإرشادات البسيطة التي يمكن أن توفر كميات كبيرة من الماء إذا طبقت على نطاق واسع :
ـ استبدال الحمام السباحي (بينوار أو بانيو) بالحمام الرذاذي (دوش) وعدم البقاء تحت الحمام لمدة طويلة. غالباً ما يكون الحمام الأول متاحاً فقط للأغنياء وأصحاب السعة فهم كما أسلفت أكثر الناس استهلاكاً للماء وإسرافاً في كل شيء إلا في المال الذي يكدسونه ويبخلون به ولا ينفقونه إلا على ملذاتهم وملاهيهم الخاصة.
ـ عدم ترك الحنفية مفتوحة أثناء الحلاقة أو تنظيف الأسنان. يمكن الاستعاضة نهائياً عن فرشاة الأسنان بالمسواك (أو السواك) الذي لا يستهلك ماء كالفرشاة وهذا أفضل حتى من وجهة النظر الصحية.
كما ينبغي على الرجال صرف النظر عن الحلاقة يومياً باستخدام الماء. فلو حسبنا كميات الماء المستهلكة يومياً في حلاقة ذقون الرجال على مستوى سوريا لوجدناها كميات مذهلة يغفل عنها كثير من الناس. كما أن كمية الماء المستخدمة في حلاقة لحية رجل واحد قد تكفي لإرواء ظمأ أكثر من عطشان.
ومن هنا تبدو أهمية إعادة النظر في قوانين بعض المؤسسات العسكرية أو المدنية التي ترغم موظفيها صراحة (كما في القطاعات العسكرية) أو عرفاً (في الأماكن التي تعول على الشكل والمظهر) على حلاقة الذقن يومياً للظهور بمظهر يسمونه لائقاً! في حين أن هذا الأمر يساهم في تكريس كارثة ندرة الماء بدون فائدة حقيقية من الحلاقة اليومية للذقن.
في كل الأحوال يجب أن تتم الحلاقة باستخدام كأس أو عاء صغير من الماء، كما كان الحلاقون يفعلون في السابق، بدل الحلاقة أمام الحنفية المفتوحة. أما من يستخدم الحلاقة الكهربائية فليس بمنأى عن الإسراف في الطاقة الكهربائية (ربما هذا أهون الشرين)!
الحل المثالي إذن هو بترك اللحى تنمو لأطول فترة ممكنة أو على الأقل بالحلاقة المتباعدة للذقن (مرة في الأسبوع مثلاً أو مرة كل اسبوعين أو أكثر وليس يومياً) وتقليل استخدام الماء إلى الحد الأدنى أو استخدام الحلاقات الكهربائية.
لكن هنا ربما ترك اللحية قد لا يسر كثير من دعاة العلمانية ومنظريها الجاهلين لأن اللحية بالنسبة لهم هي شعار ديني وتركها سيسبب لهم حساسية كبيرة لأن الدين عدوهم اللدود ولن يقبلوا بترك اللحية متناسين أنهم سيدفعون أيضاً ثمن ندرة الماء يوماً لأن أمر توفيرها ينبغي ألا يكون خاضعاً لأي مبدأ زائف علماني أو غير علماني.
فنحن الآن في وضع مائي أكثر من حرج وستزداد خطورة الأمر في السنوات القليلة المقبلة وإن لم تُتخذ إجراءات صارمة وسريعة على كل المستويات وتُطبق كثير من الإجراءات فإننا سنموت عطشاً وسيدفع الجميع ثمن التهاون والتقصير في توفير الماء لأن الناس جميعاً شركاء في الماء وهي أغلى من الذهب والفضة وكل ماديات الحياة الأخرى.
فهل نستيقظ يا ترى قبل فوات الأوان ونطبق بعض الإرشادات البسيطة التي لا تكلف الكثير ولكنها تلعب دوراً كبيراً في توفير الماء وتقليل هدرها؟
أليست الماء هي المادة الأكثر أهمية وحيوية على سطح الأرض وفي حياة جميع البشر والكائنات الحية الضرورية لوجود الإنسان وبقائه وتطوره؟ إذن ألا تستحق منا تلك المادة التي لا تقدر بثمن بعض الجهود الحثيثة والجبارة للحفاظ عليها قبل فوات الأوان لكي لا نضطر إلى استيرادها بأسعار خيالية الأسعار (كما يُستورد النفط) ؟
وأخيراً يبقى العامل الأهم في ترشيد الماء وتقليل الهدر هو الوعي ونشره بين الناس بتنظيم حملات توعية مستمرة في كل وسائل الإعلام والمدارس والجامعات والشوارع... عن أهمية الماء وخطورة ونتائج هدرها.
وفي هذا السياق وبما أن الأمر خطير وضروري لا مجال للتقاعس فيه، أقترح أن يتم وبأسرع وقت ممكن إعداد وطباعة كتيب صغير من بضع صفحات، بعنوان مثل "الترشيد المنزلي أو ترشيد الماء" أو "الألفباء في ترشيد واستخدام الماء والكهرباء"... ثم توزيعه مجاناً وسنوياً على طلاب المدارس الابتدائية والاعدادية في كل أنحاء القطر بحيث يتم التركيز فيه على ضرورة الاقتصاد والابتعاد عن إسراف وهدر الموارد بشكل عام والماء والكهرباء بشكل خاص.
يجب أن يُكتب بطريقة سلسلة مع توضيحات سهلة ومبسطة وجذابة تتوافق مع مستوى الأطفال لتساهم في زيادة وعيهم عن أهمية الماء والحفاظ عليها باتباع أساليب بسيطة في ظاهرها ولكنها فعالة في جوهرها ومضمونها.
كما يمكن التطرق فيه إلى عدم الإسراف بشكل عام في كل المجالات (ألعاب فيديو أو تضييع الوقت أمام التلفزيون والحاسب..الخ).
إدخال هكذا كتيب سيؤتي ثماره برأيي عاجلاً أم آجلاً لأن الأطفال أذكياء ولديهم قابلية كبيرة للتعلم وتطبيق الإرشادات المفيدة خاصة تلك التي يتعلمونها في المدرسة لتنعكس آثارها عليهم إيجابياً ثم على الأهل فالمجتمع عموماً.
إذن ليس هناك شك بأن كثير من الأطفال الذين سيتعلمون أهمية الترشيد لن يتوانوا لحظة واحدة في تذكير آبائهم أو أمهاتهم وأخواتهم بضرورة عدم الإسراف في استخدام الماء عندما يرون بعض أشكاله في بيوت أهلهم وهكذا يساهم براعم المستقبل في زيادة وعي أهلهم والحفاظ على الذهب الصافي نقياً طاهراً ومتاحاً للجميع.