كل ما هو مهم و عظيم صنع بحرية مطلقة و الحرية هنا هي الحرية المسؤولة و الخلاقة و البناءة الحرية التي تثمر و تطور الفكر الإنساني و ترتقي بالحالة الثقافية للمجتمعات مما يودي إلى حالة تخلق في مكونات هذا المجتمعات نحو الاحتواء و قبول الفكر الآخر وقبول التعايش مع الآخر مهما اختلفت الآراء ووجهات النظر و مهما كان هناك اختلاف و تنوع في مكونات هذه المجتمعات من ناحية الدين أو العقيدة فالتنوع في المجتمعات هو حالة ثراء و إثراء لمختلف جوانب الحياة السياسية و الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية.
ومن هذا المنطلق يجب رفض أي حالة تطرف فكري أو ديني أو ثقافي أو سياسي يهدف إلى إقصاء مكون من مكونات المجتمع الواحد على حساب المكون الآخر و لا بد من رفض أي ثقافة تستقطب التفرد و الاستحواذ و استغراق الثقافات الأخرى في المجتمع الواحد لا بد من حوار أساسه المواطنة و التوازن بين مختلف الأطياف للتوصل لحالة تعايش سلمي و ليس حوار بيزنطي هدفه الجدل لأجل الجدل ومحاولة تهميش و تقزيم الآخر و السيطرة وإلغاء الآخر.
ولطالما قدمت سوريا نموذجا لتعايش السلمي بين مختلف أطياف النسيج الاجتماعي للمجتمع السوري فالمكون السوري غني و متعدد من مختلف الأديان والقوميات واستطاع عير تاريخه بناء صورة جلية للتعايش السلمي بين مختلف مكوناته و الشواهد و الأدلة كثيرة وسأتطرق في أكثر من محطة لشخصية فارس الخوري على سبيل المثال لا الحصر التي كان عليها إجماع عند معظم السوريين على اختلاف مشاربهم.
في أواخر عام 1945,وبينما كانت سورية تغلي بنضالها ضد الاستعمار الفرنسي, في نفس الوقت الذي كانت فيه الدوائر الحاكمة تثير فيها فتن طائفية مفتعلة بين الإسلام والمسيحيين صدر تصريح لوزير المستعمرات يقول:"أن فرنسا ستبقى في سورية ما دام بقاؤها ضروريا لحماية الأقليات المسيحية من الأكثرية المسلمة"
وفي اليوم التالي كان مسجد بني أمية الكبير غاصا بالمصلين وبين هؤلاء وقف المرحوم
فارس الخوري لينادي بأعلى صوته
"أذا كانت حجة فرنسا لبقائها في سورية قائمة على حماية الأقلية المسيحية من
الأكثرية المسلمة فأنني وعن جميع المسيحيين
أشهد أن لا اله
إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله وليرحل الاستعمار عنا
فنلاحظ أن كلام فارس الخوري لم ينقص من المسيحيين واحدا ولا زاد الإسلام واحدا
ولكنه أكد وحدة الشعب السوري وتآخيه وتعايشه وأكد على أن الوطن فوق كل شئ فكفانا
عملا بجملة استهزائية للكبير جبران حيث يقول: "ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف
وتخلو من الدين"
فلنحمي هذا البلد لأنه ينحر أمامنا.
في عام 1949عندما عاد فارس الخوري من الأمم المتحدة كممثل لسوريا (والعالم الإسلامي) ووصل إلى المطار وكان السوريين باستقباله سأل ابنه عن طربوشه فقال له قد نسيته في المنزل فما كان من الشيخ محمد البيطار إلا أن خلع عمامته الإسلامية وألبسها لفارس الخوري وقال له عبارته المشهورة أنت أحق بها منا.
وعندما قرر الرئيس الوطني الراحل شكري القوتلي تعيين فارس الخوري رئيسا للحكومة في خمسينيات القرن الماضي استشار سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى في ذلك فما كان من سلطان باشا الأطرش إلا ان سأله هل سيحكم بالقانون أم بالإنجيل فأجابه الرئيس القوتلي طبعا بالقانون فقال الأطرش ليبارك الله سوريا و ليباركه الله.
نعم هكذا سوريا مهد الحضارات ومصدرة الأبجدية إلى العالم و مثالا يحتذى في التعايش السلمي و التآخي بين مختلف أطياف النسيج الاجتماعي المكون لها و كل ما يحدث الآن في سوريا من عنف و قتل و دمار وبربرية ووحشية حالة مارقة و عابرة مصيرها الزوال و ستبقى سوريا شامخة و سيبقى الشعب السوري ضاربا جذوره في الأصالة و الانتماء و حب الوطن.