سابقا كنت اعتقد أن
الإنسان لا يستطيع أن يكتب عن حياته أو عن تاريخ وطنه إلا بعد أن يطول به
العمر..... إلا بعد أن يشفى منها ويلمس جراحه بقلم دون ألم أو ينظر خلفه دون حنين
ودون جنون....لكننا لا نستطيع أن نشفى من ذاكرتنا .... إننا نعرضها كشريط قديم
للذاكرة كما تعرض أفلام السينما الصامتة ....
(( يا ردلي يا ردلي سمرة قتلتيني )) تستوقفني هذه الأغنية القديمة وتضعني وجها لوجه مع ماردين ودون مجال للشك اشعر إنني انتمي بجذوري إلى مدينة عربية أصيلة .وفي غفلة من الزمن نزور هذه المدينة لأول مرة .....وأقول في نفسي آه يا ماردين الحب والأفراح والأحزان والأحباب أجيبي لماذا تخليتي عنا .....؟ ولماذا نحن هكذا أصبحنا بعيدين عنك يفصلنا عن بعض العسكر والألغام والأسلاك الشائكة .؟.
ربما هناك مدن لا تختار أقدارها ....فقد حكم عليها التاريخ كما حكمت عليها
الجغرافية أن يهجرها أهلها باستمرار...... وفي طريق العودة والشوق والحنين إليك
أخذتي تطلبين منا بطاقة إقامة وجواز سفر وصورة وبصمة ... هل بح صوتنا اليوم أم أصبح
هناك صوت يعلو على الجميع منذ أصبحت هذه المدينة غريبة علينا ونحن غريبين عنها
.....
وافترقنا يا ماردين......لم تكوني كاذبة ولا كنت صادقة لا كنت عاشقة ولا كنت خائنة
...فقط كنت كهذا الوطن يحمل كل شيء ضده . ونحن في النتيجة لا نصنع سوى الكلمات
ووحده الوطن يصنع الإحداث ويكتبنا كيفما شاء ما دمنا حبره .
ماردين مدينة جميلة مطوقة بالجبال والغابات لكنها كأي مدينة عربية أخرى كانت متوحشة
,محكومة بالإرهاب والجوع والسمسرة والدين والحقد والجهل والقسوة والقتل و رغم
وجودها على قمة جبل فهي تبدو حزينة وان الحب ينمو بداخلها نمو النباتات بين شقوق
الصخر مهددا بالموت متى حاول الوقوف تحت الشمس .
وفي مقابلة مع سيدة مسنة من ماردين تبلغ من العمر أكثر من مئة عام و تدعى الحاجة
ذكية محمد علو مقيمة في القامشلي ولها عدة أولاد أخذت تتحدث لنا عن حادثة الهجرة من
ماردين إلى مدينة عامودة ويبدو أنها تتذكر الحادثة جيدا لأنها كانت صبية في العشرين
من عمرها تقريبا في ذلك الوقت ...
أخذت الحاجة ذكية تروي لنا القصة وتقول إن والدي ( محمد علو) كان يعمل في ماردين بدباغة جلد الأغنام وكان له ((دوشمان)) باللهجة الماردينية أي أعداء وهؤلاء الأعداء كانوا يسكنون مقابل دارنا تماما والذي كان مؤلف من طابقين والأعداء أيضا كان دارهم مؤلف من طابقين فكنا أمام أعين بعضنا ليل نهار كيفما تحركنا الأمر الذي كان يغضب والدي جدا . وفي احد الأيام أصر والدي على بيع دارنا والذي كان يقع في حارة المشكيوية وتقول إن دارنا كان كجنة الله على الأرض مكررة ذلك أكثر من مرة وأخذت دموعها تنهمر فجأة........ وحتى اخفف عن الحاجة لوعتها وحزنها على فراق ماردين بعد كل هذه السنين الطويلة وجهت لها سؤال أخر ...
هل تتذكرين حفلة عرسك في ماردين ..؟ قالت نعم وكيف انسي أنها كانت حفلة كبيرة
وجميلة جدا حيث تم زفافي على ظهر الفرس الذي كان يمسك بلجامه والد عريسي وإخوته
وعلى صوت النقارة والزرناية أي الطبل والمزمار وتتابع الحاجة ذكية وتقول تم طبخ
نقرة فاصولياء ونقرة رز ونقرة(( زردة )) لإطعام المعازيم والعشاق ...
والعشاق تعني باللهجة الماردينية ((المطربين )) إما الزردة والتي لم اسمع بها من قبل .. فقالت لنا الحاجة بأنها عبارة عن رز مهروس مع قطر السكر والقرفة يقدم كطبق حلويات بعد الطعام في المناسبات والأعياد.كما حدثتنا عن خبز ذلك الزمان الذي كان يتألف من الشعير والدخن على شكل صمون صغير ..وتتابع الحاجة الحديث وتقول انني لم أشاهد عريسي إلا في يوم العرس لان والدي كان متعصبا جدا ........
وفي سؤال أخر للحاجة ذكية ...هل تحنين وتشتاقين إلى ماردين .؟...فقالت نعم احن إليها جدا واشتاق إلى بيوتها وأسواقها وأزقتها والى نسماتها العليلة والباردة في فصل الصيف خاصة وعندما ازور ماردين تتفتح عيني من جديد...استوقفتني هذه العبارة (( تتفتح عيني )) باللهجة الماردينية وكأن الحاجة ذكية تقول لنا بما معناه إنني لم أشاهد شيئا جميلا ومفرحا منذ تغربت عن وطني (( ماردين ))......
وتتابع الحديث وتقول إن والدي باع دارنا مع عفشه بمبلغ خمسة عشر ليرة ذهب ونزلنا
إلى عامودة مشيا على الإقدام حيث استأجر والدي منزلا في حارة المسيحية وكانت عامودة
عبارة عن قرية صغيرة مقارنة مع ماردين ....وهنا غرقت الحاجة في نوم عميق وكأنها
سافرت بأحلامها عبر جواد ابيض إلى مدينتها الأم .
إنه الحنين المغناطيسي إذا لأصيل عذب يشق زهرة الروح . حكاية أسطورية عامرة بالحنين
القديم . زمن مضى تستعاد ألان تفاصيله القديمة .. ثمانون عاما من الشقاء والكوابيس
وصدمة الموت مرت ...لا على الرمل والحصى , إنما فوق حقول القلب . لكن الأمر يبدو
ألان سردا للذكرى بعد طول ابتعاد. الذكرى التي اعتادوها في أوقات سريان الماضي عبر
الحاضر المؤلم ...أصبحت بهجة للروح الحزينة .
القامشلي 16/5/2014
https://www.facebook.com/you.write.syrianews