لم يكن أحد يأبه
بإسمه ، أو يراه اصلاً . كان مروان أكثر ضآلة من أن يلاحظه أحد في مخزن كبير . كان
قصير النظر ، ضعيف البصر . يهبط الدرج وهـو لا يدري أين يضع قدميه . يردد دائماً "
يا بصير ، يا بصير" إلى أن اضمحل بصره تقريباً ، وعميت بصيرته تماماً . قالوا له
يوماً ناصحين لا تكن أعمى فتحسب الآخرين عميان .
ورث عن أمه ضخامة الجسد ، لكن نفسه الغريرة كانت
قاصرة عن مجاراة جسده . شغل نفسه طيلة حياته بجمع المال الأسود من مختلف وجوه
الحرام . كانت عيناه تطرف بنظرة الجوع المعتادة حين يرى مالاً . لا تفوح من ثيابه
سوى رائحة الطرقات ومن يديه رائحة الدم . أعتاد الابتعاد عن كل متعة حقيقية في
حياته يتلذذ بالانتقام من الآخرين فقط ليعوض بذلك كل ما لديه من نوازع النقص .
كان كل شيء تقريباً متاحاً أمامه في المخزن ، ولكنه لم يدر ماذا يريد . يفكر دائماً
متحسراً بالأيام الماضية التي قضاها بلا عمل وسط براميل الكنتاكي وعبوات الكولا
العملاقة على حساب المخزن ، وهو يقول لنفسه ما اثقل الهواء . ما أقل ما أخذت وما
أكثر ما أخذوا . ومع ذلك ، كانت ريح الخوف تتسلل إليه رغماً عنه . فكان يسير بحواس
شاردة في الشوارع والساحات الخالية ، والطرقات غير المأهولة وهو يسمع من حوله عشرات
الأصوات ، ثم يكتشف أنها كلها أصواته ، صوت قلبه ، وتنفسه وتدفق الدم في عروقه .
يقف طويلاً أمام المحلات المظلمة يبحث فيها عـن أشياء لا وجود لها .
كان جائعاً ، وظل جائعاً حتى بعد أن تدفق المال الأسود بكثرة بين يديه الملوثتين .
لم يغادر جسده وخز آلام الجوع والحرمان والبؤس ، أو ينسى شيئاً من أيام الجوع
وليالي الخوف عندما كانت الأحلام تتحول إلى اشباح قاتمة فيشعر بالكراهية نحو ذاته
ونحو الجميع . يستيقظ في منتصف الليل وهـو يصيح أنا جائع ، أنا ميت من الجوع .
ولعله مات أخيراً جائعاً .
كوابيس دموية غامضة
رأى نفسه في المنام ذات ليلة يسير عبر ممرات طويلة ، هبط فوق سلالم زلقة ، ودخل إلى
نفق مظلم ، شهق من الرعب . كان مدير المخزن في انتظاره ، ولم يكن باقياً منه إلا
رأس معلق على رمح . انتفض من شدة الخوف كامرأة حبلى بالألم . عاوده الحلم مرة أخرى
، فرأى نفسه ينحدر رغماً عنه إلى واد لم يره من قبل ، هبط بين أشجار يابسة وأعشاب
جافة . تلفت مفزوعاً ، رأى في انتظاره عـدد من الرجال في ثياب سوداء كالغربان .
لم يميز ملامحهم .. ابتعدوا ، أنتم تخنقوني ،
تمنعون عني الهواء . لكن دائرتهم الضخمة لم تتزحزح ، حجبت الضوء أيضاَ . وظلت
الدائرة تضيق حتى أنه شم أنفاسهم اللزجة . أمسك احدهم بذراعه ، كأن أصابعه مخالب
بارده انغرست في لحمه ، وقال له لماذا أتيت إذاً ؟ ولماذا لم يأتي معك قرينك المدير
؟ لو جاء لرأى منا أيضاَ ما يسره . هيـا . اخلع نعليك . وبعد أن انتهوا فقأوا عينيه
وتركوه يخوض وحده في ظلمة الوادي . صرخ أين أنا ؟ أجابه الصدى أنت في وادي لوط .
الله كريم .. الله كريم
ذهب بصحبة زوجته أحلام إلى الشيخ الضرير أبو سراج وجلسا أمامه . حدق فيه الشيخ
بعينيه الفارغتين ، وحرك أنفه كأنه يتعرف عليه من رائحته المبهمة . وأدار وجهه كأنه
يراه ويقرأ ملامحه المتوترة . سأله أن يقص عليه ما يريد . فقالت أحلام بركاتك يا
سيدنا .. بركاتك بدنا ولـد . فأجابها بصوت خفيض الله كريم الله كريم . كان يرقب في
بلاهه شديدة الكلمات التي تخرج بصوت خافت من بين شفتي الشيخ الضرير وهو يردد
التمائم والتعاويذ الغامضة .
قالت زوجته لنفسها لأن رزقني الله ولداً على يديه لأسميه كريم . طلب الشيخ الضرير
من خادمته عطاف المتشحة بسواد الغربان أن تقدم لهما الشراب المعتاد . وعندما ساد
الصمت وشعر أنهما غابا عن الوعي تلمس طريقة إلى أحلام . وبدأت الساعة الجدارية في
الغرفة تدق بلا توقف محفزة كل غرائزه الوحشية . بقيت عطاف ترقبه بمشاعر مختلطة وهو
يقترب بخفة من أحلام يتحسس جسدها وأنفاسها الدافئة باشتهاء . ورأت يده تنساب بخفوت
وصمت إلى مواطنها الحميمة قبل أن يبدأ الزحف على جسدها ويُطبق رأسه الثقيل على
أنفاسها . بدا جسدها مغطى بالجروح والخدوش .
لم تكن أحلام فيما يبدو قد غابت عن الوعي تماماً . لعلها لم تتناول كل ما قدم لها
من الشراب خلاف مروان الذي كان شخيره يملأ المكان . كانت ترى سقف الغرفة يهتز وهي
تسمع أنفاسه المتوترة وتشم رائحة زنخة تفوح من ثيابه كأنه اكتسبها من الغوص في لحم
الأخريات . لم تغادر عطاف حتى ترددت في الغرفة أنفاس الانتهاء .
قلب ينبض في وهـن
كان يقف كل يوم في النافذة ويطل على ساحة المخزن دون أن يراه جيداً وهو يردد " يا
بصير ، يا بصير" . كان المخزن كساحة موت مفتوحة لا توحي بأي أمان . يتحسس الأموال
الحرام المكدسة بين يديه الملوثتين بدماء الآخرين لعلها تعطيه احساساً بقيمة الذات
بدلاً من هواجس ذلك المستخدم الراقد في أعماقه .
وكانت النهاية مهينة وليست مأساوية حتى ذلك الحين تليق بمستخدم وغـد لئيم كان ينتقم
من الموظفين لكل مرارات الفشل والأحلام المجهضة . يقترف كل هـذا والمدير الذي أطال
البقاء صامت لأنه راغب خاصة بعد أن شاخ عقله وتثاقل ظله . وأصبح قلبه ينبض في وهـن
. لوى ذيله أخيراً واسرع في الرحيل مطروداً إلى بيروت وهو يخفي خجله بين الذين
ظلمهم كثيراً ، فلم يدر أحد أهـو أحق بالرثاء ، أم بالشماتة ؟ انتظر الجميع حتى
يأتي هـذا اليوم وتهب نسمة عذبة من ناحية بردى فترتعش القلوب وتسود السكينة .
إلى من يأمن المرء في هذا الزمان ؟
وبعد مرور فترة قصيرة على رحيله المهين وجدوه مشنوقاً بحبل من مسد في قبو بيته وسط
بيروت . جمعوا كل الشواذ والشحاذين واللصوص ، وكل من كان في صدره نقمة ، وله مظلمة
في المخزن الكبير ويحلم بالخلاص . وبعدها أختفى الجسد ولم يعرفوا له طريق مثلما لم
يعرفوا قاتله . فتشوا الدروب والمغارات والآبار والقبور المهجورة ، وحتى بيوت
الخلاء . واقتفوا آثار الأقدام . لا وجود ولا شهود . وهكذا زال ظلم المستخدم مروان
كأن لم يكن . قليل من الموظفين يصدقون أنه قابل للموت . لكنهم لن يعودوا بعد اليوم
إلى حياة الخوف في المخزن . وسبحان من له الدوام .
ومثلما أختفى جسده ، أختفى ماله . أوليس المال الحرام يذهب هـو وأهله . لم يكن هناك
أمام الجميع إلا الشك في المقربين منه ، وكانت المفاجأة عندما اعترف الجميع على
الشيخ كربوج ، رجل المهام الخاصة ، الذي كان يتردد عليه في أوقات عديدة ومختلفة
لترتيب مواعيد زياراته المتكررة إلى عيادة الشيخ شحتوت في خان دنون الأخصائي في
إخراج العفاريت بمختلف أنواعها بتقنية جديدة استوردها من أوروبا ، وفي تحضير مختلف
أنواع الحجابات كالتي يضعها مروان في ثنايا ثيابه المهلهلة وعلى رقبته الغليظة
كرقبة الثور .
وضعوا الشيخ كربوج في السجن فلم يعترف . ضربوه وحلقوا لحيته ، فلم يعترف . تحمل
الكثير وخرج بعد عدة سنوات من سجن عدرا يهمهم بكلمات غامضة تحكي عن تجربة السجن
الصعبة ، ولا أحد يدري إن كان قد سرق النقود أم لا . ولكن لم تنقضي فترة طويلة على
خروجه من السجن حتى شرع في بناء عيادة كبيرة خاصة به في خان دنون .
https://www.facebook.com/you.write.syrianews