كان ظله الأسود كالليل الذي أتى منه يقف بين يديه يرتحلان تحت الشمس الحارقة . كان مروان يسير بشرود إلى حيث ينتظره الموت في مكان مجهول . يحس برغبة عارمة في البكاء ، ويشعر أن هذا الألم الممض في داخله لا يكفيه البكاء . لكن كان من الصعب أن يموت ، فالكوابيس لا تموت بهذه السهولة .
صعد مع أول ضوء للفجر إلى عربة ديليجنس في ساحة
المرجة حيث تتراصف العربات التي تقوم برحلات يومية إلى ساحة البرج في بيروت . كانت
هناك عربة تقف بموازاة جامع يلبغا ملأنه تنتظر راكباً واحداً بعد كي يكتمل العدد .
افسحوا مكان لمروان ، وقام المكار الحمصي أبو عياش بوضع كيس مروان على دكة الخشب
خلف العربة مع متاع الآخرين من سلال وأكياس منتفخة . وتفقد بنظرة فاحصة سريعة
العجلات وعنان الخيل وأربطة الأمتعة قبل أن يقفز بخفه علي الزيبق إلى مقعده في
مقدمه العربة ليبدأ رحلته التي كانت طويلة دوماً وهو يردد في صوت يسمعه كل من حوله
دعاء السفر .
سارت العربة ببطء في طريق متعرج بموازاة نهر يملك دون أنهار الكون إرادة التوقف عن
الجريان . كانت أيام الحرب طويلة تلون النجوم البعيدة بلون الدم ، والشهب تتساقط
خلف حافة جبل قاسيون ، والطيور تفر وهي تطلق صيحات الفزع . كأن الموتى يستيقظون .
وكل الأحقاد القديمة تزدهر.
أخذ مروان يتظاهر بالنوم مع حركة العربة لكي لا يدفع اجرة الطريق عندما بدأت تفوح
رائحته الثقيلة التي تشبه رائحة دم قديم . اشتكى الركاب بصوت مرتفع وهدد أحدهم ،
وهو يضع يده على انفه ، بالنزول من العربة واسترداد نقوده . وهتفت سيدة منقبة ، وهي
تنظر مواربة نحو مروان ، ما أغرب هذه الرائحة وما أشد كراهيتها . كانت شموس الدنيا
عاجزة عن ازالة هذه الرائحة التي تنبعث طوال الوقت من تحت أظافر مروان .
أوقف المكار العربة واستدار نحو مروان وأمسك بخناقه وهو يرفعه من على المقعد ويلقي
به بعنف خارج العربة متبوعاً بكيسه من دكة العربة . انفتح الكيس وهوى على الأرض سيل
من الليرات الذهبية والاوراق النقدية الخضراء ، وأخذ بريق الذهب يخطف بريق الصباح
وسط دهشة وانبهار الركاب والمكار الذي عاود السير بعربته على عجل وهو يتمتم في صوت
خافت .. يا لطيف وحرامي كمان !
لـص طليـق .. إلـى حيـن
كان مروان يريد الالتحاق بفرع المخزن الكبير في بيروت لعله يسترد شيئاً من كرامته .
كانت إهانة كبيرة طرده من المخزن بهذه الطريقة وفي هذه الأوقات . وكان أشد ما يؤلمه
ويثير استغرابه في نفس الوقت أن الأمور أخذت تتردى إلى حضيض في الوقت الذي لا يزال
فيه المدير العام للمخزن قابع في مكتبه يتربصون به ريب المنون .
أحس في صباح ذلك اليوم بأنه وحيد بلا ظل المدير الباهت والقصير. كيف انقلب الحلم
المزيف إلى كابوس ؟ وأي كابوس هذا الذي لا ينتهي ؟ كيف تركه المدير العام لهذه
الدرجة من الذل والهوان ؟ أذل من وتد بقاع . هل كنت مُخطئاً في كل ما فعلت .. في كل
ما عشت؟ صرخ بأعلى صوته : لم أكن أريد . وتبدد الصدى دون إجابة . متى يكتشفون إني
لست بالسوء الذي يتصوروه ؟ لست مجنوناً ، وإنما الزمن هو الذي أصابه الجنون .
كان مروان مجرد مستخدم غير متعلم سطحي لدرجة الاعاقة ، أسير كابوسه اليومي الخاص في
بيت الشيطان المعتم برغم الشمس والأنوار حتى ظن أن هذا قبره ونهاية حياته . كان مثل
جرادة يحمل الشر المطلق والجوع النهم . تختلط عليه وفي داخله وجوه الخير والشر. ورث
عن والديه الفقر وسوء الخلق . وتمكن لأسباب أتضحت لاحقاً من الاستحواذ على المدير
العام ، فقبض على المخزن ، ومن ثم قبض على مقدرات من فيه .
غامت الذكريات في عيني مروان وهو ينظر إلى العربة وهي تبتعد بسرعة حتى غابت عن
الانظار . ومضة خاطفة كأحلام الموتى . تذكر معلمه في الصف الثالث ابتدائي في مدرسة
البلدة الذي كان يوبخه ويؤنبه لغبائه ويؤكد لأمه ، التي كان يختلي بها في العلية
عندما كانت تذهب إلى بيته ليلاً في ظاهر البلدة بحجة السؤال عن أحوال دراسة ابنها
مروان ، أنه إذا ظل على هذه الوتيرة من قلة الفهم والغباء فلن يتمكن من متابعة
دراسته . نبوءة تحققت وأتت كفلق الصبح . نصحها ذات ليلة بأن ترسل ابنها ليعمل
حمّّال في السوق ليكسب قوت يومه بدلاً من ذل السؤال .
وتذكر لحظات الخوف وعدم اليقين التي سببها بحماقاته لجميع الموظفين في المخزن . كان
يريد أن يتقمص أي مظهر من مظاهر السلطة . يحاول أن يخلق حوله سياجا من الخوف . كان
ينظر إلى الموظفين كالماشية ينهضون من تحت العصى ويخرون تحت السوط . وكانوا ينظرون
إلى وجهه في توجس وقلق وإلى ظهره في احتقار وازدراء . كانت تتحكم فيه شهوة القتل
بدافع الانتقام فيقتل دون تمييز حتى أصبح المخزن ساحة موت مفتوحة لا توحي بأي أمان
. يستمر في بحثة اليومي المحموم عمن يستحق بنظره القصير القتل . كانت ثيابه لا تفوح
منها سوى رائحة الدم . لكنه كان في نفس الوقت يعيش حالة من الرعب الدائم . كانت
نظرات وصياحات الموظفين الخافتة في البدء تطارده ، يسمعها من كل مكان في المخزن ،
وخاصة إذا جاء الليل .
أصبح مروان حائراً مثل غريق . تلقى درساً قاس بلا شك . لعله تعلم من قسوة الدرس
شيئاً . كان يشعر بالاشمئزاز من نفسه وبحدة اشواك المهانة حول رأسه الأجوف . ظل
يركض في المخزن سنين عديدة ركض الوحوش دون أن يصل إلى السكينة والأمان . كان يدرك
أن النهاية قادمة وأنه حفر لنفسه قبراً بأظافره .
وكان المدير العام يشعر أن الأمر كله إهانة شخصية موجهة إليه ، ويؤجل البكاء على
مروان إلى ما بعد الرحيل . كان يعلم بالجمر المضطرم تحت الرماد ، وأن احتجاجات
الموظفين وتبرمهم من الظلم الواقع عليهم إذا لم يبادر إلى معالجتها فسوف تتحول إلى
صرخات . لكنه تنهد أخيراً في ارتياح حين رأى مروان يختفي من أمامه وبدأ يحس بعبئه
الثقيل ينزاح من فوق صدره . كان يجب على مروان أن يعرف في وقت من الأوقات أنهما قد
وصلا إلى نهاية الطريق وإن بقي في أعماق كل منهما إحساسه الدائم بالأسر للآخر .
إلى أين تسير يا مروان ، وما نهاية الطريق؟
بات الموظفون يدركون بطريقة غامضة أن مروان قد ابتلع لقمة أكبر من طاقته ، وأن
المدير العام أصبح في ورطة حقيقية وصلت حد الفضيحة بعد أن إنكشف للجميع امتلاك
مستخدم معاق لمخزن كبير بصورة سافرة وهو الذي كان مطروداًً منه لسرقاته وتصرفاته
الحمقاء لا يجد جحراً يختبىء فيه . وكان المدير العام يدرك في نفس الوقت أن أيامه
بسبب ذلك لم تكن أحمد أيام المخزن ، وأنه عندما يموت سيضيع إرثه وكل شيء وكأنه كان
حلماً في منام .
لم يكن مروان يبالي بنظرات الكراهية في عيون الموظفين ، ولا بالغضب المكتوم في
نفوسهم . وكثيراً ما كان يرى بعضهم وهم يرفعون أكف الضراعة وعيونهم مغمضة بأن يتولى
سبحانه المخزن برحمته ويُجزي الظالمين بما كانوا يكسبون . يا خفي الألطاف نجنا مما
نخاف . فاستجاب الله لهم وأذاق مروان لباس الجوع والخوف من جديد . قتل المئات من
الموظفين عندما طردهم من المخزن بدافع الانتقام الأعمى تاركاً لهم همّّ العيال وضيق
المعاش ، فحرمه الله سبحانه في نهاية المطاف من المخزن ومن كل البلد .
كان كل شيئ متاحاً أمامه ولكنه لم يدر ماذا يريد . لم تعرف نفس مروان طريقاً
للاستقرار والسكينة ، يجاهر بالافطار في المخزن في شهر رمضان لأسباب غير مفهومة .
ويصبح في بيت الشيطان المعتم مثل حيوان مرعوب يختبئ في الظلام مدمناً لاحساس القوة
المطلقة التي يمنحها له المدير العام ، القدرة على التحكم في المصائر ، ووضع نهايات
الخلق . لم يكن للموظفين بالطبع العين التي يرى بها المدير مروان وحماقاته التي
أسقطت هيبته في نفوسهم .
استولى مروان ذلك المستخدم الذي لا نسب له ولا جذورعلى المخزن بالكامل ، وكان أن
خيم على المخزن نتيجة لذلك ليل طويل حتى ظن البعض أن مروان لن يرحل أبداً . وأن
الموظفين قد ألفوا ظلمه وحماقاته وكل الاشكال المشوهة من علاقة مدير بموظفيه . أصبح
الزمن " محللك سر" حيث تتشابه الأيام ويصبح الأمس واليوم والغد لحظة طويلة مرهقة
ومملة . إنه كابوس النهب الطويل وافتقاد العدل . يتحسس ويحصي كل يوم بأصابع مرتعده
الأموال التي جمعها على سبيل السلفة من الموظفين التي لم ترد قط ، ومن كل أوجه
الحرام من حيث أتت . كانت بارده ككل شيء يحيط به في بيت الشيطان المعتم .
من يُعيد لزمن المخزن المختل ميزانه المفقود
كان زمن المخزن مليء باليأس حقاً ولكنه لا يخلو من الأمل . فأخذ الموظفون يعدون
العدة برغم كل صنوف الهوان والقهر اليومي ليؤدبوا مروان ويكفوا عنهم شره بعد أن
فشلت كل المحاولات لتحقيق ذلك بالتي هي أحسن . لم تهدأ مطحنة الكراهية والانتقام في
بيت الشيطان المعتم طيلة سنوات عديدة . كانت الاهانة هي الفعل اليومي في المخزن ،
والحرمان من الاجازة على سبيل المثال هو أهون هذه الافعال . تعود الموظفون أن
يؤجلوا حلمهم بالعدل والخلاص عاماً بعد عام حتى لم يبقى هناك بديل عن مواجهة اللص
في عقر داره بعد أن أدركوا أنهم إزاء معتوه ظل يتصرف لآخر لحظة بنفس الحماقات .
فرضت عليهم معركة حاولوا عبثاً أن يتجنبوها . أدركوا أنهم وصلوا جميعاً لخط النهاية
. فلم يعمدوا إلى التظاهر بالضعف والهوان ، بل واجهوه بقوة وعزيمة لا تلين بعد أن
نزعوا ثوب الخوف واستيقظت في داخل كل منهم أرواح قديمة قادرة على أن تدمر المخزن
فوق رأس مروان الأجوف . البعض لم يكن يملك إلا قلمه في هذه المواجهة الحاسمة مثل
كاتب هذه السطور. آخرون جاءت كتاباتهم مباشرة وجريئة أعطت في مجملها صورة أكثر
وضوحاً عن ما يجري في داخل المخزن من سرقات وخراب بيوت . وهذا بلا شك من عزم الأمور
.
خاضوا معركتهم بلا تراجع من فرط الحنق والقهر ورغبتهم في الخلاص . وخاضها مروان
بوحشية اللص اليائس ووضاعة المستخدم الراقد في أعماقه منذ اكثر من ربع قرن والذي لا
يجد لنفسه مهرباً آخر وهو يعرف نتيجتها سلفاً . يومها كانت نجوم السماء بعيدة ،
متألقة غير خائفة يتجدد ويتحقق فيها حلم الخلاص والعدل المفتقد في المخزن .
واجهوه وهو في أوج غروره وحماقاته يقبع وهو منفصل تماماً عن الواقع في بيت الشيطان
المعتم في غيبوبة كاملة تتشابه فيها الأيام والرؤى والكوابيس المتتابعة . لم يكن
يعلم بعد أنه خلف هذه الجدران الخانقة يوجد عالم آخر. تحركوا مثل قبضة اليد الواحدة
، على الرغم من كل الخلافات المحتدمة في داخلهم . وانتشروا في كافة أرجاء المخزن
كما ينتشر الأمل . تطلع مروان من خلف الستائر فوجدهم في كل مكان ، كل نظرة في
عيونهم تحمل وعيداً . أغلق عليه بابه وجلس يرتجف من الخوف والترقب . وغرق في غيبوبة
جديدة تتداخل فيها صيحات الموظفين وصور المدير العام .
هجر ذاكرته القديمة في بيت الشيطان ، وعاش حلمه الزاهي المزيف وهو يرقب المدير
العام بكراهية مكبوتة ، فلم يفيق إلا على صيحات الموظفين المدوية بوجوه غاضبه تحاصر
البيت يطلبون منه الخروج . لا بد أنه لمح في وجوههم بعضاً من الكبرياء وعزة النفس
التي لم تقتلها سنوات الظلم والقهر .
كان جبن مروان متسقاً مع مظهره وسوء تقديره . صاحوا في حنق وغضب جارف افتح الباب يا
لص يا أبو ريحة وإلا سنكسره على رأسك وندخل رغماً عنك . كانت طاقة الغضب تعم أرجاء
المخزن كله . أعتقد في البدء أن باب غرفته أقوى من هذه التهديدات . ولكنه سرعان ما
أدرك أن نهايته قد حانت . فأخذ يُشغل نفسه بجمع ما يمكن جمعه من المسروقات وهو
يرتجف في كيس ويعده للرحيل . كان يجب أن ينجو قبل أن يتحول بيت الشيطان إلى فخ
يقنصه .
الجزاء من جنس العمل
دارت الدائرة وانهزم مروان ، ولم تهدأ النفوس إلا بعد أن خرج مستسلماً لمصيره
متوسلاً إليهم باكياً حتى لا يقتلوه . كان عليه أن يفلت سريعاً قبل أن يتخذوا
قراراً بقتله . احاطوا به كأنه قرد داخل طوق . يحدق فيهم بعيون جامدة كعيون الموتى
. يحاول عبثاً أن لا يُظهر على وجهه الرعب الذي يملأ قلبه ، وأن ينفض عن جسده ما
تلقاه من إهانات وعن وجهة من بصقات . ما هذه الغمغمات الخفية التي تدور من حوله ؟
لم يكن مروان ماهراً في القتال مهارته في سرقة المال من كل أوجه الحرام . خاض
معركته بتخاذل وجبن يليق بلص وغد . ساقوه إلى خارج المخزن حافي القدمين مربوط بحبل
من رقبته يحاول دفع مشاعر التخاذل التي يحس بها في أعماقه وقد أخفض رأسه الأجوف إلى
الأرض ، ونظراته ذاهلة لا يدر من الذي يقف أمامه . رأى الجميع صفرة وجهه والعرق
الذي يكسوه . كان في انتظاره في الخارج بعض الذين أهانهم وسرقهم والقى الرعب في
قلوبهم ، كانوا يسدون طريقه بوجوههم الغاضبة يركلونه ويشدونه من ذيله وثيابه
ويبصقون في وجهه الكئيب .
وخرج أهالي بساتين الرازي يتزاحمون لرؤية كبير اللصوص وهو طريد ، وارتفعت أصواتهم
بالزغاريد لأول بشائر الخلاص في الوقت الذي كان فيه المدير العام في مكتبه يقضم
أظافره ويمسح دموع الحنق والقهر . كان يدرك أن الهزيمة كانت قاسية ، وبقية الثمن لم
يدفع بعد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رحلة مروان إلى الموت . ( الجزء 2) : لقيه في الطريق بعض الرعاة ، وسأل أحدهم :
تعرف أين طريق بيروت ؟ تأمله الراعي ملياً ، وقال له يعابثه ، بعد أن اقتنع بعلامات
البلاهة فوق وجهه ، أنت كبيرهم . إنما تُعرف عنجر وكل الأماكن بك . وأعطاه بعض من
التمر الجاف الذي يقتات عليه . أي عذوبة في تلك الحركة لجائع سابق ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مروان : أشهر لصوص المخزن الكبير في بساتين الرازي وأعلاهم شاناً . يداه ملوثتان
بدماء المئات من موظفي المخزن . يمتاز بشخصية قلقة كبلتها شهوة السلطة والمال ،
وأعمتها شهوة الانتقام لتعويض كل ما لديها من عقد خاصة سببها على الأرجح ضخامة
الجثة ، والشك في صحة النسب ، والفشل في تحقيق الذات . كان يرى في بعض الموظفين
نفسه التي فشل في أن يكونها فتأبط للمخزن شراً. ارتفع كل من حوله وبقي هو في حضيض
المال الحرام يمد أصابعه إلى كل مكان يتدفق منه . ُطرد إلى فرع المخزن في بيروت ،
ثم إلى دبي ، وبعدها إلى حياة الخوف في الأزقة حيث يوجد أناسه الحقيقيون ، ولم يظهر
بعد ذلك قط .
https://www.facebook.com/you.write.syrianews