news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
فشة خلق
ياسيد قرضاوي: العَلمانية لم تحكُم بلداننا العربية والإسلامية يوما واحدا...بقلم: د. عبد الحميد سلوم

يقول المُحرِّض الطائفي المعروف الشيخ يوسف القرضاوي: ( حكمت العلمانية بلادنا العربية والإسلامية قرابة قرن من الزمان، فماذا جنَتْ الأمة من وراء ذلك؟ هل ارتقت الأمة من هبوط؟ هل تقدمت من تخلف؟ هل دخلت عصر الثورات التكنولوجية والإلكترونية والبيولوجية والنووية والفضائية والاتصالاتية والمعلوماتية؟!)..
والسؤال للسيد القرضاوي : من أين جِئتَ بهذه النتيجة والخلاصة؟. وأين حكمتْ العَلمانية على مدى مائة عام بعد رحيل الإستعمار العثماني؟.
العَلمانية لم تحكُم يوما واحدا في أي بلدٍ عربي .. لقد حكمتْ في تركيا بعد سقوط الدولة العثمانية وبفضلها ارتقت تركيا من دولة عثمانية متخلفة إلى دولة متقدمة تحكمها الديمقراطية والتعددية باستثناء بعض الفترات القصيرة التي سادتها الإنقلابات وذلك إلى أن جاء الأخوان المسلمون حديثا وحكموها بالآيديولوجيا الدينية والتفوا على كل المنجزات الديمقراطية والعَلمانية ودفعوا الشعوب التركية إلى التعصب الديني والردّة نحو الأديان ودخلت تركيا في صراعات لا متناهية مع كل محيطها الإقليمي، وتسببت بتأجيج الآيديولوجيات الدينية في المنطقة بموزازاة جمهورية إيران الإسلامية.
 


في بعض البُلدان العربية تواجدت أحزاب يسارية، إما قومية أو ماركسية، ذات توجهات علمانية، وليست علمانية 100% ، وإنما كانت لديها توجهات علمانية وحينما وصل بعضها إلى السُلطة ضعُفت توجهاتها العلمانية لصالح المصالح السياسية والتنازلات أمام المؤسسات الدينية بهدفِ كسبها إلى جانبها والفوز بدعم تلك المؤسسات، وأقامت تحالفات مع المؤسسات الدينية في الوقت الذي حاربت به التيارات اليسارية التي تحمل الفكر العلماني.
لقد استلم حزب البعث السلطة في سورية في عام 1963 ، وكانت لديه توجهات وتطلعات علمانية، ولكنه لم يتمكن من بناء دولة علمانية، وبقي الدستور يؤكد في كل تعديلاته على أن دين الدولة هو الإسلام، أو أن دين رئيس الدولة هو الإسلام، أو أن الشريعة الإسلامية هي مصدر أساسي للتشريع، أو أن الشريعة الإسلامية هي أحد مصادر التشريع، ولم يتمكنوا في أي وقت من شطب كل هذه العبارات من أي دستور سوري بسبب عوامل عديدة أولها هو موقف المؤسسة الدينية التحريضي ضد العلمانية ومفاهيم العلمانية التي صوروها للشعب على مدى عقود طويلة أنها كُفرا ومحاربَةً للدين، وهذا أكبر تجنّي على العلمانية وأكبر افتراء ضدها، وأكبر جهلٍ بمعانيها ومفهومها.


فحينما يكون لديك حزبا لديه توجهات علمانية فهذا لا يعني أن الدولة باتت علمانية حتى لو حكمها ذاك الحزب، ولا يمكن لِحزبٍ علماني مائة بالمائة أن يقبل في دستور بلاده : أن دين الدولة هو الإسلام ، أو أن دين رئيس الدولة هو الإسلام، فهذا يتنافى بالمطلق مع مفهوم العلمانية التي تقوم على أساس التساوي في المواطنة بغض النظر على الدين والمُعتقَد والعِرق والجندر، وليس على أساس الدين والعقيدة، فهذا تمييز وعنصرية وتهميش لأبناء العقائد الأخرى.


فِكركم الديني الضيق والمنغلق يا سيد قرضاوي ، وما تمثلونهم من حركات دينية سلفية منغلقة هي من منعت العَلمانية من الانتشار والتطبيق في العديد من البُلدان العربية .. لم تتركوا وسيلة إلا واستخدمتموها في محاربة أية توجهات علمانية، فحتى التوجهات لم تقبلونها، فما بالكم بالتطبيق العلماني الكامل؟. لقد ثارت ثائرة الأخوان المسلمين في سورية وقبلها في مصر منذ أن وصلت للسلطة أحزابا سياسية لديها ، كما أسلفتُ ، توجهات علمانية وليست علمانية 100% ولا حتى 50 % .. وهذا الأمر مكتوب في كتب التاريخ ومعروف للجميع وليس المجال هنا لإعادة شرحهٍ وإنما للتذكير به فقط.


ولذلك فإن القول أن العلمانية حكمت دولنا العربية والإسلامية قرن من الزمن فهذا كلام لا يمت للحقيقة بمثقال ذرة.. والحقيقة أن الدولة الدينية هي من حكت شعوبنا ألف وثلاثمائة عام على الأقل فماذا قدمت لهذه الشعوب؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي طرحه .


الجميع يعلم أنه بعد الخلافة الراشدية كانت هناك الدولة الدينية الأموية، وقد توسعت كثيرا حتى وصلت الأندلس غربا وبلاد السند شرقا، ولكن هل كانت هي النموذج الصحيح الذي يُحتذى به؟. هل من أحدٍ يجهل كم تخللها من الحروب والقتل والإلغاء والطائفية والأحقاد بين المسلمين التي ما زلنا حتى اليوم نعيش نتائجها وندفع أثمانها؟. ثم ألم تكن الدولة الأموية أول من أدخلت على الإسلام نظام الحُكم بالوراثة؟.
الجميع يعرف المآل الذي انتهت إليه دولة بنو أمية على يد العباسيين وما فعله هؤلاء من قتلٍ وملاحقة لأمراء الأمويين، وللأئمة الشيعة، والجميع كانوا مسلمين!.


أسّس العباسيون دولتهم الدينية أيضا على أنقاض دماء الأمويين ، ودولتهم التي كان مركزها بغداد امتدت خمسة قرون وربع ، من 734م -1258م وشهدت تنافسا معروفا، ولم يُسَيطر العباسيون على السلطة بشكل فعلي إلا خلال المائة سنة الأولى من 734م-839، في حين سيطر العسكر الأتراك في المائة سنة الثانية من 839-936م ، وفي المائة سنة الثالثة سيطر البويهيون الفرس من 936-1049 م ،وفي المائة سنة الرابعة سيطر السلاجقة الأتراك من1049-1149 م ، وفي المائة سنة الخامسة كانت فترة الاضمحلال وانحسار الدولة العباسية في العراق الى أن جاء المغول التتار بقيادة هولاكو عام 1258 واستولوا على بغداد وفعلوا ما فعلوه وانتقلت بعدها الخلافة العباسية إلى القاهرة واستمرت (وإن شكلا) حتى قدوم الاحتلال العثماني عام 1516 حيث قضى عليها ونقل مركز الخلافة إلى الآستانة .


إذا كافة الدول التي تشكلت بعد الخلافة الراشدية، إدّعتْ أنها دولٌ دينية، وبذات الوقت كانت دولٌ قبَلية، فكانت دولة الأمويين (نسبة لِبني أمية) وكانت الدولة العباسية (نسبة لبني العباس) وكانت الدولة السلجوقية والأيوبية والمملوكية، والعثمانية، وكلها على أسماء القبائل التي كانت تنتسب إليها (إذا ما استثنينا المماليك) ، ولكن الجميع كان يقول أنه دولة دينية، فماذا حصدنا خلال كل ذاك التاريخ من الدول الدينية (القبَلية) ؟.


لم نحصد من كل تلك الدول الدينية إلا الحروب والقتل والجهل والتشرذم والتفتت والتخلف والعصبيات القبَلية والجاهلية والكراهية والتكفير والحروب، هذا على الرغم من بعض الجوانب المشرقة في بعض مجالات العلوم، ولكنها كدولٍ كانت دولٍ متخلفة يسودها النزاعات والاقتتال والإستئثار بالحُكم . وإن كان الإسلام قد جاء لتخليص العرب من جاهليتهم وعصبياتهم القبَلية، فقد أعادَ مؤسسو الدول الدينية بعد الإسلام كل عصبياتهم القَبَلية وأطلقوا اسم قبائلهم على الدول التي أسسوها. فكان لدينا الدولة الأموية والعباسية والسلجوقية والأيوبية والعثمانية .. وهكذا أعادوا تمسكهم بالمفاهيم الجاهلية التي جاء الإسلام لمحاربتها..


لم يعرف دينا من الأديان التشرذم والتشتت والأحقاد التي عرفتها الدول الدينية الإسلامية ، مع أن المسلمين هم الأكثر بين الأديان مباهاة واعتزازا بدينهم وبالمقابل هم الأوحد بين بني البشر فتكا ببعضهم البعض بإسم دينهم!.. أليست هذه مفارقة عجيبة !.. في الطوائف المسيحية الكريمة بكل تنوعاتها وكنائسها وخصوصياتها ، يُوحدها الثالوث المقدس ، ورمز الصليب.. واليهودية بكل مدارسها وتفرعاتها واختلافاتها ، من مذهب الكبَّالة (القبَّالة) ومدرسة موسى ابن ميمون ، وإسحاق لوريا ، وحتى أبو حَصيرَة ، وغيرها من عشرات المدارس المختلفة ، مع الأشكنازي والسفارديم ، تتوحد جميعا خلف نجمة داوود. ويتوحد البوذيون خلف تمثال بوذا ، الذي إنهال عليه الطالبان بالمهدات والمطارق، كي يزيلوه عن سطح الأرض، ويتوحد الهندوس حول ( البقرة ) .. وهناك من يتوحدون على عبادة الشيطان، بينما لم يتمكن إجماع المسلمين على القرآن الكريم ، وعلى الرسول محمد (ص) وعلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وعلى الصوم والصلاة والحج والزكاة، لم تستطع كل هذه القواسم المشتركة بين كل المسلمين أن توحد بينهم شعرة واحدة . أليس هذا عجب العجاب . ماذا يعني كل ذلك؟. هل يعني أننا أسلمنا ولكن لم يدخل الإيمان الى القلوب ؟.


--مطلوب منا كمسلمين لنعيد تصويب الإسلام ونجدده كل مائة عام ، تيمما بما قاله رسول الله (ص) ، أن الله يبعث في أمتي كل مائة عام من يجدد لها دينها ، مطلوب من المسلمين إعادة فلترة وتنقية الدين على الأسس التالية ، وسأجتهد قليلا ، طالما أن الإجتهاد أصبح مُباحا للجمبع ، والفتاوى حسب الطلب ودونما ضابط ( وما حدا أحسن من حدا ) :
-أن نفصل فصلا كاملا بين الدين والدولة، فالدين للعبادة وليس للحكم، والإسلام لم يأتي بنظام دولة على الإطلاق، وترك الأمر للمسلمين لأنهم أعلم بشؤون دنياهم وكيف يجب أن يتدبروا أمورهم.

- أن نلفظ من الاسلام كل دعاة الفتنة والتحريض والكراهية ، من أي مذهب كانوا..

- أن نلفظ كافة الكتب الدينية التي وُضِعت عبر التاريخ من أي طرف ، ودعت الى الكراهية والتشكيك والتكفير ، ورفض الآخر والإستهزاء من مذهبه..

- أن تعترف كل المذاهب الإسلامية ببعضها ، أسوة بالمسيحية واليهودية ، وأن يلتزم الجميع بأساس من أسس الإسلام وركائزه وعقيدته وهو : كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وعرضه وماله ..

-التوقف عن تسييس الدين والإستثمار به لأغراض دنيوية زائله ، وتحقيق مطامح خاصة كما تفعل اليوم دولتان يقوم حكمهما على الدين. .
- الإبتعاد عن كل أشكال التربية والثقافة التي تزرع الحساسية والكراهية بين أبناء الطوائف والمذاهب ، في البيوت والمدارس أو سواها ...

- أن يتم ضبط الفتاوى من أية جهة كانت ، لا سيما إن كانت تنعكس سلبا على الأمة ، أو تزيد من الشروخ بين أبنائها، أو تعطي للعالم صورة سيئة ومتخلفة عن الاسلام ..

-إحترام أديان كل البشر ، حتى لو كانوا من عَبَدة البقر ، فالله هو من سيحاسب الجميع في ما بعد الموت ، أو يوم القيامة ، وليس من حق مخلوق في هذا الكون أن يعتبر ذاته الحقيقة المطلقة ، ومن حقه ، أو واجبه محاسبة أحد على عقيدته ، لأن في ذلك تَعَدٍّ على حقوق ومهام الخالق، الذي لو شاء لخلق البشر كلهم أمة واحدة ، وهو من قال لا إكراه في الدين ، ومن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر، وإنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم .. والتقوى لا تستقيم مع الكراهية والقتل والخطف والحقد والثأر والإنتقام..

نحن يا شيخ قرضاوي نحتاج إلى لملمة قومية عربية قبل أي شيء، أسوة بكافة شعوب العالم.. فهل تعتقد أن المسلم التركي والمسلم الإيراني والهندي والباكستاني وغيرهم، يحبون المسلم العربي أكثر من أبناء قوميتهم؟. كلا فالجميع متمسك برابطه القومي ما عدانا نحن العرب وذلك بسبب حقد البعض من الجماعات الدينية على العروبة وعلى القومية واستبدال الرابط العروبي والقومي بالرابط الديني والمذهبي، وهذا لم يفعله أحد سوى بعض أبناء القومية العربية الأعداء لقوميتهم، يعني لأبناء دمهم .
إقرأ التاريخ الحديث ياشيخ قرضاوي لِتُدرِك كيف أنه بعد انهيار الإتحاد السوفييتي والأنظمة الشيوعية في شرق أوروبا عاد كل شعبٍ ليعيد بناء نفسه على أسس وروابط قومية، وليس دينية ومذهبية.
بعض العرب خِلافا لكل أمم الأرض هم وحدهم من لا يتمسكون بحبل رابطهم القومي . أعطوني أمّة واحدة على سطح هذه البسيطة قد دعستْ على انتمائها القومي وألغتْ هذا الرابط بين أبنائها ؟. الدول الأوروبية انخرطت في اتحاد كبير وعظيم : برلمان أوروبي ، مجلس أوروبي ، مجلس إتحاد أوروبي ، مفوضية أوروبية .... ولكن لم تبتعد أمّة أوروبية واحدة ميلّمِتر واحد عن رابطها القومي ودولتها الوطنية القومية.. فلماذا أعداء العرب والعروبة يريدوننا أن نبتعد ، نحن العرب، عن روابطنا القومية..

لماذا يحق للجميع ما لا يحق للعرب؟.. لماذا يحق لأردوغان أن يتمسّك بحبل (طورانيته ) أي قوميته ( وهو من حزب ديني) ولا يحق للعرب؟.. لماذا يحق لكل شعوب الإتحاد السوفييتي السابق بعد تفككه أن تُقيم دولا وطنية قومية على أساس الانتماء القومي والتوليف العرقي ، ولا يحق للعرب؟.

حينما غضِبتْ أذربيجان من مساعي التطبيع بين تركيا وأرمينيا في العام 2010بينما مشكلتها في (ناكورنو كاراباخ) مع أرمينيا ما زالت قائمة ، ذهب أردوغان إلى (باكو) لاسترضائهم وردّد من هناك عبارة الرئيس الأذربيجاني السابق (حيدر عالييف) : أننا شعبٌ واحدٌ في بلدين!.. هذا على الرغم من التباين المذهبي بين تركيا وأذربيجان .. فالرابط القومي لديهم هو الأساس ، وليس الرابط المذهبي .

القومية هي الهوية على صعيد الأمم وليس الدين ، والوطن هو الهوية على صعيد الشعوب وليس الدين .. فالدين خصوصية وهوية ثانوية من هويات متعددة للإنسان (وقد تتغير)، والله لا يحاسب البشر بهويّة جماعية وإنما فُرادى ، ولا تزر وازرة وزر أخرى .

حينما تسافر عبر العالم لا أحدا يسألك : ما هو دينك ؟ يسألونك من أي بلد أنت وليس من أي دينٍ أنت .. فالبلد تعبير عن الهوية الوطنية والقومية.. ولذا كم من الأمم تمّتْ تسمية أوطانها على اسم قوميتها : أرض الهولنديين ، أرض الإنكليز ، أرض السكوتلانديين ،أرض الآيرلنديين، أرض الألمان (باللغة الألمانية دويتش لاند)، أرض الآيسلنديين ،أرض الفنلنديين..الخ ...

ألمانيا انتظرت منذ الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط جدار برلين عام 1979 لتعود وتتوحد على أسسٍ قومية ، ومن ثم تعودُ عاصمةُ ألمانيا الموحدّة إلى برلين .. بعد تقسيم ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، اختار الألمان الغربيون مدينة صغيرة لتكون عاصمة مؤقتة لألمانيا الغربية وهي (بون) لأنهم وضعوا نصب أعينهم منذ ذاك الوقت أن ألمانيا لا بُدَّ أن تتوحد وتعود العاصمة التاريخية (برلين) كما كانت وهذا ما حصل .. وكمْ دفعَتْ بون من المليارات لإعادة تأهيل وإدماج القسم الشرقي من ألمانيا .

وعلى هذا المبدأ القومي وانطلاقاً منه تم توحيد إيطاليا في القرن التاسع عشر.. وعندما تفكّكت الإمبراطورية النمساوية - المجرية لم تصبح /ترانسلفانيا/ مستقلة ولكنها عادت وانضمت تلقائياً إلى رومانيا على أساس قومي ، وهذا ما فعلته /سيليسيا/ حيث انضمت إلى بولونيا على أساس المبدأ ذاته .. ومن يتابع ما حصل في منطقة البلقان ومنطقة القوقاز بعد التفكك السوفييتي يدرك كيف أن أبناء كل قومٍ واحدٍ يلتف حول بعضه ويُعيد توحيد صفوفه ولمِّ شمله على أساس قومي .. حتى الأقاليم ذات الحكم الذاتي أو الخاص في بعض البلدان تسعى للإنفصال على أساسٍ قومي، وتجربة اسكوتلندا وكاتالونيا ما زالت ماثلة للعيان .

لقد وُجِدنا كعرب قبل أن توجد كل الأديان على سطح البسيطة ، فالقومية العربية أحد أبعادها هو الإسلام وهذا نعتز ونفخر به وهو ما يجعلنا نعتبر العالم الإسلامي عمقاً للعالم العربي ونؤكد على الربط بين العروبة والإسلام ، وهذا ما تجلى بالقول المأثور : "إذا عزَّ العربُ عزَّ الإسلام وإذا ذلَّ العرب ذلَّ الإسلام". .. والرسول (ص) كان عربي ، والنُبوّة لم تفقده هذه الهوية إلا أنها أضافت بُعدا إسلامياً للهوية العربية الأصلية... ولكن بذات الوقت هناك بعدٌ مسيحيٌ لهذه القومية ولا يجوز شطبه أو تجاهله أو إنكاره .. وأبناء قومِنا العرب (المسيحيون) اعتنقوا المسيحية قبل أن يظهر الإسلام ولكن بقيت هويتهم عربية ، ولا يمكن أن يكون الرابط بِمن اعتنق الإسلام البارحة في أمريكا أقوى ممن ينتمي لبني قومي من آلاف السنين ويعيش بجانبي لمجرد أنه غير مسلم، فهذا لا يستقيم مع العقل ولا المنطق . هذه تكون أشبه بثقافة داعش العنصرية البغيضة للإسلام التي تُقسِّم البشر إلى ( مسلمين وكفّارا) ، في انتهاك سافر للقرآن الكريم ، ولقوله تعالى ( إنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) .. وليس لتذبحوا البشر باسمي ، وتصادروا حقوق السماء وتحدِّدوا مِنْ عِندكَم من هو المؤمن ومن هو الكافر.. إذا ماذا تركتم ليْ في يوم الحساب ؟!.

أمم الأرض المتقدّمة والمتخلِّفة ، كلها تشترك في عاطفة الانتماء لبني قومها !! وحتى القبائل في أفريقيا تتمسك بروابطها القومية وتراثها وخصائصها وتعتبرها هويتها الأولى، فَمَنْ لم يسمع بالتوتسي والهوتو والزولو والهاوسا واليوروبا والإيبو ....الخ ..

إن كنتم ياشيخ قرضاوي تنشدون حقا نهضة هذه الأمة وانتصارها على كل آلامها وجراحها وضعفها وتخلفها، فعليكم الدعوة إلى إقامة دولٍ عَلمانية والفصل بين الدين والدولة أو بين الدين والسياسة، والإستفادة من تاريخ الغرب الذي انتصر على كل آلامه وجراحه وحروبه بالعلمانية أخيرا.

لدينا دولتان دينيتان بالمنطقة فهل هما النموذج الذي يُحتذَى به؟. لم يأتي منهما على هذه المنطقة سوى الحروب وزيادة التشرذم والعصبيات الطائفية والمذهبية..

ومن هنا أقول ثانية أن كل من ينشد خيرا لهذه الأمة فعليه أن يدعو إلى ويستفاليا إسلامية على غرار ويستفاليا الأوروبية عام 1648 التي وضعتْ حدّا لكافة الحروب الدينية في أوروبا وأبعدتْ سلطة الكنيسة والكهنوت عن سلطة الدولة وعن السياسة ، وكانت الّلبِنة الأولى التي أسّستْ للنهج العَلماني في أوروبا وشيّدت فوقها حضارةً غير مسبوقة في التاريخ جعلتْ من أوروبا وبلدانها حُلُما للعيش بها ، ونقلت شعوبها في زمنٍ قياسي إلى مستوى من التقدم والازدهار لا مثيل له في هذا الكون ... وانتهوا إلى غير رجعة من الثقافة الدينية والطائفية والمذهبية البغيضة .

لا سبيل أمام المسلمين إلا ذات النهج الذي سارت عليه دول أوروبا وشعوبها (والعلمانية ليست ثقافة أوروبية أو غربية وإنما هي ثقافة إنسانية وليست حُكرا على مكان جغرافي ولا على شعوب بعينها) وفي كل يوم يتأكد أكثر حاجة المسلمين بكل طوائفهم ومذاهبهم إلى ويستفاليا إسلامية ، تضعُ حدا لعقول الجهل والتخلف والاستعمار والاستعباد والترهيب باسم " الدِّين" ، وتمنع بشكلٍ نهائي الخلط بين الدين والدولة ، وتفرز بين الدين والسياسة .. فالدين هو للعبادة وليس للسياسة ، وإن من يقول أن القرآن كله سياسة (كما صرّح أحد الأخوان المسلمين في أحد البرامج الحوارية الساخنة على إحدى الأقنية العربية) فإنما يُهينُ الدين ويهين القرآن الكريم ذاتهُ .. وهذا ما يستحقُ تهمة إهانة الذات الإلهية ..

كلمة "سياسة" لم ترِد في كل القرآن الكريم ، والقرآن الكريم فيه قصص وعِبرٌ وأحكام عبادة وتوجيهات عامة ومثُل وقيم ودعوة للأخلاق الحميدة ، وكل هذا لا علاقة له بمفهوم السياسة ، والرسول (ص) كان رسول للهداية نحو دين الإسلام وليس نحو سياسة الإسلام . ولو كان القرآن الكريم كله سياسة ، بحسب ذاك الأخواني ، لكُانت باتتْ سياسة قديمة كما وسائل الحرب القديمة ، وأن نظريات السياسة الحديثة قد تجاوزت ذلك بأزمان وأزمان . فنظريات السياسة متطورة ومتغيرة ومتبدلة ، كما وسائل الحرب ، ولكن القرآن كتاب الله ، فهذا ثابت لا يتغير ولا تتغير أحكامه وسوره وآياته على مدى الزمن .

إن من يريدون القرآن سياسة ، والدين سياسة ، هُم أصحاب المشاريع الفتنوية الدينية الطائفية ،الذين سيّسوا الدين واستغلوا الدين لأغراضهم ومشاريعهم الدنيوية، وهُم حينما يقولون بأن القرآن كله سياسة فإنما يستخفون بقيمة القرآن الكريم ويحولونه إلى كتاب سياسي كما كافة الكتب السياسية التي ألّفها الكثير من السياسيون. فتأليف كتاب في السياسة مسألة سهلة ، ولكن وجود كتاب مُقدّس من أقوال الله ليستْ مسألة سهلة .. هذه تحتاج لمعجزة إلهية .

بل إن العمل السياسي يسيء لِرجُل الدين لأن هذا يتطلب سلوكا ومواقفا وممارسات لا تليق بِرجُل الدين ولا برسالة الدين ... الساسة هُم من يوتِّرون العلاقات بين الدول في هذا العالم ويتسببون بالحروب والقتل والدمار والخراب ، ومهمة رجُل الدين (كما مهمة الدبلوماسي) هي إزالة التوتر والاحتقان أو التخفيف منه على الأقل حتى لا يتفاقم وتدفع أثمانه الشعوب .. مُهمة رجُل الدين هي ما يجسدهُ بابا الفاتيكان ، فتعلموا جميعكم منه ، وليس عيبٌ عليكم إن اعترفتم أن رجُل الدين المسيحي كان أنجحَ منكم في نشرِ رسالةِ محبةٍ وتسامحٍ حقيقية ، بينما للأسف الشديد غالبية رجال الدين المسلمين مهمتهم هي توتير العلاقات في المجتمعات وبين الدول والعزف على الوتر الطائفي والمذهبي والتحريض على الأحقاد الطائفية والمذهبية والدينية ، وكل ذلك هو نتيجة الخلط بين الدين والسياسة .. هل هذا الكلام خاطئا؟. هل تجدون فضائية للبروتستانت تحرض على ذبح الكاثوليك ؟. أم فضائية للكاثوليك تُكفرُ الأرثوذكس ؟.

تذكروا ما قالهُ الشيخ محمد عبده حينما زار أوروبا : (وجدتُ في أوروبا مسلمين بلا إسلام ووجدتُ في بلدي إسلامٌ بلا مسلمين ..) . وهذا معناهُ أن المسلمين هُم مُجرّد اسمٍ فارغٍ من كل القيم والمبادئ لا توجدُ عندهم قيم ومبادئ إلا بالكلام والثرثرة والمظاهر الخدّاعة ، بِعكسِ دينهم المليء بالقيم والمبادئ ، بينما الشعوب والمجتمعات الأوروبية هي صاحبة القيم والمبادئ السامية في الحياة وفي إتقان العمل الذي هو أساس كل شيء ، وفي المحبة والتسامح والرحمة بين بعضهم البعض. ولذلك ليس عجبا أن تأخرَ المسلمون ألف عام عن شعوب الغرب.. والهوّة تتسع، وستبقى تتسع، ما لم نقتفي طريق الغرب في فصل الدين عن الدولة والسياسة وننتهج النهج السياسي الذي يسود في بلدانهم.

فيا ليتنا نسمع منك ياشيخ قرضاوي دعوات وتصريحات تدعو إلى ويستفاليا إسلامية واتباع نهج العَلمانية في الدول العربية والإسلامية، وهكذا تخدم الأمة كثيرا .. فكفانا 1300 عام من الدول الدينية الفاشلة .
 

2018-03-21
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
مساهمات أخرى للكاتب
المزيد