news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
مقالات
نحو بعث جديد ....1.الهوية ... بقلم : عمار وقاف
syria-news image

أقعدتني المفاجأة بضع ثوان عندما أكد لي زميل لبناني التقيته في أحد المؤتمرات الدولية في دمشق أن أحداث ومجازر العام 1860 لم تقتصر على لبنان فقط ...


كما حاولت عبثاً أن أشرح له، وإنما امتدت لتشمل دمشق أيضاً. سبب المفاجأة كان بعضاً من إنكار أن ما يمكن أن نعتقد بحدوثه بشكل اعتيادي في بلد كلبنان لا يمكن أن يحدث في سوريا، وكثيراً من الأنفة والخذلان والناجمين عن كوني جاهلاً بمثل هكذا حدث جلل.


حدث كهذا، مسكوت عنه لأسباب تمس الحرج من تاريخ تعودنا على كونه مجيداً، أساسيّ في فهم هويتنا وكيفية بدء تحولنا من مسلمين وأهل ذمة وكفاراً إلى عرب وسوريين. هو تحول استمر قرابة قرن ونيف من الزمان، بدأ عملياً بغزو إبراهيم باشا لسوريا في ثلاثينات القرن التاسع عشر وانتهى رسمياً بإعلان دستور حزب البعث العربي منتصف القرن العشرين. تحولٌ فقدنا خلاله الثقة بالدولة العثمانية، وفقدتها بنا، وتطورت عبره الشخصيتان التركية والعربية بشكل منفصل عما جمعهما قروناً.

 

باختصار، واستجابة لدعوة الشاعر، فقد تنبه العرب واستفاقوا على خطب طام، وبدؤوا في البحث عمّا يخلصهم من جور حاكمهم ويسهل لهم استقبال ما استدبرته أمم أخرى من علوم وثقافة. وبدأت تنشط فكرة أنه لئن فرقنا هذا الإله أو ذاك فإنما يجمعنا تاريخ ولغة وثقافة وأرض. وبدأ التفتيش عن إطار يكون الناس ضمنه سواسية، على اختلاف مشاربهم، ويكوّن بحد ذاته أساساً قومياً لدولة حديثة، إلى أن خلصنا في نهاية الأمر إلى نتيجة أن العرب أمة واحدة.

 

هذه النتيجة، والتي يذهب البعض أنها ما تطورت إلا رداً على تطور النزعة الطورانية التركية، كانت على ما يبدو ضرورة أكثر منها رد فعل. فلا بد وأن أجدادنا قد صعقوا بهول ما حدث في العام 1860 وغيره وتساءلوا، بعد أن هدأت الدماء في العروق، عن مبرر وجدوى أن يذبح الجار جاره. ولئن كانت بعض النظريات، كفكرة أهل الذمة والكفار، تبرر نظرياً قتال هؤلاء إن خرجوا عن آداب الضيافة، فلعل حزن أبي مصطفى على رفيق عمره أبي حنّا كان أعمق من كل النظريات.

 

الانفصال عن الدولة العثمانية والتلاقح القسري مع الحضارة الفرنسية أيام الانتداب، صقل قليلاً هذه الفكرة وانتهى الأمر بعد الاستقلال إلى طرحها كهوية جامعة، لا للسوريين فحسب، وإنما للعرب أجمعين. كان الأمر بداية أشبه بالحل السحري الذي طال انتظاره؛ كان الجواب على الأسئلة جميعها. إلا أن الناس في سوريا ما تلقفوا تلك الفكرة مباشرة أو تبنوها بالاجماع. واستغرق الأمر زمناً كي تبدأ الهويات المذهبية والإقليمية بالتنحي جانباً، وذلك مع قيام الوحدة مع مصر على أكتاف الأفكار القومية لحزب البعث ولجمال عبد الناصر.

 

ثورة آذار قامت بمشاركة فعالة ممن كانوا يعتبرون سابقاً مواطنين من الدرجة الثانية أيام الدولة العثمانية. أثار هذا حفيظة من لم يتلقف الهوية الجديدة ويعتمدها، ورأى فيما حدث تقويضاً لامتيازات عمرها قرون، فكان أن حدثت قلاقل معينة في ستينات القرن الماضي. وعلى ما يظهر، فقد تم تضمين الدستور المقترح ما بعد الحركة التصحيحية عبارة "دين رئيس الجمهورية الإسلام"، على الرغم من تبني البعث لسياسة فصل الدين عن الدولة، لاسترضاء من قاموا بتلك القلاقل.

 

حاول البعث مأسسة عملية إنضاج الهوية الجديدة بعد الحركة التصحيحية عن طريق المنظمات الأهلية والطلابية وغيرها، إلا أن الأمور أفلتت من عقالها بعد أن وجد المستاؤون من اهتم بتمويلهم وتدريبهم بغية استثمار حفيظتهم ضد النظام السياسي الجديد. كانت حرب الإخوان المسلمين على البعث سبباً، ربماً، ببدء مرحلة الإسراع بصبغ الجميع بهذه الهوية، إذ وصل البعث لقناعة تفيد بأن الهوية العربية الطابع، والأسمى من كل الهويات الضيقة، هي فقط ما سيحمي الوطن من الانجرار إلى اقتتال طائفي لا تحمد عقباه.

 

طيب، والآن ماذا؟

الآن، بعد نصف قرن تقريباً على وصول حزب البعث إلى سدة الحكم، وبعد خمسة وعشرين عاماً على انتهاء أحداث الإخوان المسلمين، قد يكون من المفيد أن نسمح لأنفسنا بالاعتراف أن الهويات الطائفية والعرقية، والتي تأتي في المقام الثاني في العموم، ما زالت تلعب دوراً ما في توجهات الناس، لا بل في مصالحهم أحياناً. وربما نسمح لأنفسنا بالاعتراف أيضاً أن هكذا هويات تأخذ أكثر مما تستحق من الاهتمام عند الاندفاع للحفاظ على توازنات قد لا يكترث الناس لها أحياناً.

من حهة ثانية، وإضافة للطابع القومي للهوية، فقد تم التداول بيننا بطابع أخر ذي منشأ طبقي، تأثراً بالفكر الماركسي بشكل أو بآخر. ومع إعادة الاعتبار نوعاً ما للطبقات التي كانت مسحوقة قبل الاستقلال فقد تم تقليم أظافر طبقات أخرى، بالنتيجة. ومع أن اعتماد هذه الفوارق الطبقية في تصنيف الناس قد خفت حدته كثيراً في العقدين الماضيين، إلا أننا ربما نسمح لنفسنا أيضاً بالاعتراف بأننا بحاجة لهوية ترفع مظلة فوق رأس الجميع، لا واحدة تجعلهم منهم أصنافاً.

هذا في الداخل، وأما باتجاه الخارج فقد يكون من المناسب أن نكتّم قليلاً، بعد كل هذه العقود، حباً قد برى جسدنا تجاه عرب لا ترى في البعث إلا بدعة، ونخفض شيئاً ما من سقف توقعاتنا لحسن النوايا وصدق المشاعر. ليست المسألة في أن البعض من إخوتنا لا يؤمن بالعروبة بقدر ما هي أنهم ربما يرون في أسلوب طرحنا للمسألة القومية مزاودة أو استفزازاً أو تحدياً لطريقة عيشهم. ولعل فيهم من يرى بعضاً من حسد، أو حتى طمع، في قول دستور حزب البعث " إن التوزيع الراهن للثروات في الوطن العربي غير عادل...". ولعلنا بحاجة لأن نراجع كيفية تسويقنا للأمر بشكل أكثر جدية مما سبق.

 

ماذا يعني كل هذا؟

يعني كل ما سبق أننا على قدر ما من التشويش وأننا بحاجة لأن نطور هويتنا قليلاً بحيث تضم الجميع وتفتح الباب للجميع، لا أن نقصي هذه الطائفة أو ذاك العرق أو تلك الطبقة. نريد هوية لا يشعر فيها هذا المواطن أو ذاك أنه غير مرحب به، أو أنه غير قادر دستورياً على الترشح للكرسي الفلاني، أو أنه محسود أو محارب اقتصادياً. نريد هوية يشعر من خلالها الجميع أنهم على قدم المساواة لكي يكونوا جميعاً أصحاب مصلحة بالقدر ذاته، ونضمن بالتالي ثقة الجميع ببعضهم.

 

وأما عن ماهية هذه الهوية وكيفية الوصول إليها، أقول:

الهوية هي المواطنة، وحسب. مواطنة بنكهة سورية عربية. الأمر بهذه البساطة، وإن كان الوصول إليه ليس سهلاً على الإطلاق. فلان مواطن سوري، يعني أن هذا الفلان يمكنه أن يتمتع بكافة الحقوق، وأن يتبوأ أي منصب، وأن يتملك ويتزعم ويقود ويفعل ما يريد، ضمن القانون. لقد ضقنا ذرعاً بمقولات أن هؤلاء لا يحق لهم، وأن أولئك هم تاريخياً أعداء الفئات الكادحة، وأن أولئك الآخرين لا ينتمون كلياً، إلى ما هنالك. مواطن، يعني مواطن.

 

بالتأكيد، فإن تحديد من يحق له أن يكون مواطناً في الجمهورية العربية السورية أمر بحاجة لبحث وتطوير وتوضيح. وأما عن العروبة، فقد آن أوان تعويمها وجعلها مظلة جامعة، لا هدفاً نسعى لتحقيقه. وإن كنا نود الاتحاد مع هذه الدولة العربية أو تلك، فليكن على أساس المواطنة، لا على أساس أننا عرب، وحسب. وإننا لئن عملنا على تطوير مفهوم المواطنة إلى أرقى مستوياته استطعنا جذب إخوتنا إلى نظامنا السياسي أكثر بكثير مما سنستطيع جذبهم عن طريق التفاخر بأننا عرب، فقط.

 

لم يكن لدى السادة عفلق والبيطار والأرسوزي صحن لاقط لقنوات فضائية متلفزة تعكس لهم واقع البلدان العربية، ويبدو أنهم مضغوا المسألة القومية وهضموها مع بعض من رومانسية وتفاؤل. تصوروا لو أننا اليوم قررنا الاتحاد مع المملكة العربية السعودية، مثلاً. طيب، على أي أساس نتحد؟ ولأي نظام قضائي نخضع؟ وهل نقلص الحقوق الاجتماعية التي يتمتع بها مواطنو الجمهورية العربية السورية، أم نوسع في تلك التي يتمتع بها رعايا المملكة العربية السعودية، أم نقوم بالأمرين سوية؟

 

أي قانون نزاعات مدنية نعتمد؟ وهل سيشعر مواطن سعودي تمت محاكمته حسب القانون السوري بالعدالة؟ أم هل سيشعر مواطن سوري بالعدالة إذا ما تمت محاكمته حسب القانون السعودي؟ هل يقبل مواطن سوري أن يتم اغتصاب زوجته أو ابنته أو أخته أو والدته جماعياً، فيطلق سراح المغتصبين وتجلد المرأة، مثلاً؟ أو بالأحرى، هل تقبل امرأة سورية هكذا تعاطٍ معها، بصفتها مواطنة في الجمهورية العربية السورية كاملة الحقوق والأهلية لا واحدة من نساء هذا الرجل أو ذاك؟

 

نحن جميعاً عرب، هذا صحيح، ولكن اختلافنا في الوعي السياسي والاجتماعي أكبر من أن نعتمد توحدنا هدفاً ممكن التحقيق في المدى المنظور. علينا ألا ننسى أننا لا يجب أن نكسب أفئدة إخوتنا في الوطن العربي فقط، بل علينا أيضاً أن نهزم ممانعة أنظمتهم السياسية. وإن ما نقوم به عبر الجامعة العربية من دمج الأسواق والاقتصاديات وتبادل للاستثمارات طريق سليم وفي الاتجاه المطلوب، فكفانا أحلاماً، بحق الإله.

 

طبعاً، تطوير مسألة المواطنة إلى مستوى مقبول وجيد بحاجة إلى أفكار عميقة وجهد كبير وتغيير مناهج تعليمية وتنشئة أجيال وتغيير اجتماعي مركز وزمن ليس بالقليل، ولكن ألا تتفقون معي أنه يستحق أن يكون هدفاً سياسياً نلزم حكومة الجمهورية العربية السورية أن تصرف عليه مواردها أكثر بكثير من هدف مثالي كالوحدة العربية؟

ألا تتفقون معي، على الأقل، أن صرف الموارد على تنمية المواطنة أجدى من البقاء للأبد تحت رحمة توازنات ما زالت تنخر في كفاءة مؤسساتنا حتى أصابها وأصابنا الاهتراء؟ وهل يمكن أن يقتنع مواطن عربي يعيش في موريتانيا، مثلاً، بفكرنا الوحدوي وما زال فينا مواطنون لا يشعرون بكامل الانتماء لوطنهم السوري؟

2011-04-03
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد