في غمرة الألم والحزن الذي يعتصر وطني, ويكبّله بقيود, يجعل ضحكاتنا مقفرة, يجعلنا نقف عاجزين لهول ما يحصل, تصبح الغربة غربتنان, ويتضاعف الألم, وتغدو الصباحات كئيبة, ولا تعود فيروز حبّة السعادة التي ننتاولها مع شاينا وقهوتنا الصباحيّة
ويصبح الرجال على غير عادتهم في كبح الألم, ومقدرتهم على انتشالنا من الحزن لغصّات الثكالى والأرامل ودموعهنّ, لا يسعني الا أن أصرخ بقلمي الصغير أن: (عد أيّها المغترب الى بلاد الوطن... ).
فأقلامنا وكتاباتنا جواهر ثمينة نتباهى بعرضها حينا, وان كانت تفضحنا, هي كأطفال لنا نرعاها ونحميها ونشرف عليها, ننبش فيها في كل لحظة, هي ذلك المستمع الذي لا يملّ, هي ملاذنا من طعنات الآخرين لنا...لكن لماذا لا أنسخ قصّتي الحزينة من مربع الوورد في كمبيوتري وألصقها في مربع مساهمات القرّاء كي أرسلها الى سيريا نيوز؟,
فقراؤها جديرون بالإصغاء, لقد تردّدت كثيرا في ذلك, لكن الرغبة في ان أزيح عن كاهلي وطأتها وأن يكون قلمي قد ساهم ولو بقليل القليل في تفكير المغتربين بالعودة الى الوطن هي من دفعني لذلك...
في أحد المساءات التي لم أكن فيها على طبيعتي في المرح, وفي جعل ظلمات الأيام أقل وطأة, تذكرت حينما أعددتَ حقائبَ سفركَ بعضها يعجّ بالكتب الثمينة, الجميع كان حزينا حتى جيراننا وأقربائنا وأقرباء أقربائنا, كنت تبدو سعيدا, أسألك أوَ كنت سعيدا بحقّ؟.. تركتنا وتركت أمك قابعة في زوايا بيتك تبكيك أيها المهاجر إلى دروب الغربة, لم تهدأ دمعاتنا حتى مع علمنا بوصولك إلى هناك...
كنتَ شجرة لبيتك التي تفيأ الجميع بظلالها حتى الوطن, وأكلوا من ثمارها, واستمعوا إلى موسيقى عصافيرها, لقد صفعتني مرتين: مرة أنت تعرف سببها, ومرّة بسفرك إلى بلاد الغربة, صفعتني لأنك كنت بالنسبة لي ملاذي في غياهب ووحشة صحارى الأيام القابعة في غربة قلبي, كنت بالنسبة لي كل شيء... وبعدما رحلت وانهار عمود بيتك, وبانهياره رحتُ أراقب تداعيات ذلك الانهيار الذي قلب بيتك رأسا على عقب, لم أكن أعلم أن غيابك سيجعل أيامنا موحلة وصعبة سيجعلها مقفرة جدا, مرّت الأيام صعبة جدا والصعب يمرّ وإن تمادى في طول جلساته, اللحظات الأليمة تعود لتصبح هي من يصنع سعادتنا وبطولاتنا, لأننا نتذكر كم صبرنا عليها, وكم كنّا أبطالا الى حد نتفاجأ فيه من أنفسنا, وهنالك في بلاد الغربة حيث يفقد الكثير منا أجمل صفاته وأبهاها وهي عشقه لبساطة الحياة في أوطاننا
وبجانب شجرات الجوز والأرز والليمون يفقدها لأن مغريات المادة في بلاد الغربة تجعل هذه الامور الثمينة بالنسبة له سهلة المنال فلا يأبه بها أو يكترث لها, ولكن الايام توقظه ليدرك: كم أن المال لا يستطيع شراءها؟, لم أعلم أني سأكون تعيسة الى هذه الدرجة ولكني تمالكت نفسي وأصبحت ذلك الجدار الاستنادي الذي استلمت قيادته بعد رحيلك وأعترف أني نجحت ولكن بقليل, وأنا أفخر بذلك القليل, فمجتمعنا الشرقي لا يعترف بالمرأة كثيرة الذهاب والإيّاب, ينظرها بعين يملأها الشك, كيف لا أذهب واعود وانا بين الجامعة والعمل؟,
حاولت أن أصنع أمجادا لطالما اندثرت, ولكن الله ساعدني إذ عثرت على من انتشلني من حنيني المر إلى أهلي وإليك وإلى أحد يستطيع قراءتي.. لقد كان هو من يجلس بجانبي الآن, هو من انتشلني من صفعاتك المتكررة, وعادت الحياة إليّ بجانبه.... ولكن آخرين كثر ينبغي انتشالهم هناك في أرض الوطن.
لكن أثرَ فراقكِ وما كبلتَ عائلتكَ به من خسائر معنوية لا مجال لحصرها في قصتي القصيرة هذه, لا زال يعقد صفقات التمرّد عليّ, وأحيانا يوسعني ضرباً ولا يغدو من هرموني الحياتي أي شيء..
وهنالك في بلاد الغربة درست الاختصاصات كلها وحصلت على دكتوراك الثمينة التي في يوم من الأيام كنتَ أنت من يحلم بها وأنا كذلك, ولكن الآن في غمرة الآلام التي تعتصر وطني, لم أعد آبه لشيء إلا لسلامتك وصحتك التي جعلتنا نطعن بها بعدما حصلت معك تلك الكارثة في أحد مخابر علومك وتلقيت وخزاً بإبرةِ أحدهم واعتقدت أنت وأصدقاؤك أن صاحب الابرة مصاب بمرض خطير قد ينتقل اليك في أي لحظة..
الأم الحزينة ماذا تفعل بسماعها هذا الخبر المؤلم, لقد جعلتها تبكي إلى حد معها وقفت دموعها لأنها نضبت, وسعى قلة هرمون الدوبامين إلى النيل منها إلى حد اعتقدت أنها ماتت, نعم لقد ماتت ألف مرة بغيابك وبألمك
وها أنت ذا الآن حائر ما بين العودة أو البقاء في بلاد الغربة بلاد الحضارة وبلاد العلم بلاد تسرق قلوبنا وتسرق نبلنا,, وتسرق أجمل صفاتنا وتسرق قرآننا, كيف تحتار بذلك أوَ تعتقد ان الحياة ستديم أمك طويلا؟, لقد انتهت حياتها وأنت ما تزال هناك وتقول
لي: كيف أعود إلى بلادي وفوضاها عارمة؟, أنت تذكرني بالأطفال عندما يقولون: ماما لا نريد دخول غرفتنا, فالفوضى فيها عارمة, لماذا نكون كالأطفال ولا نتقبّل ان هذه الفوضى هي من صنعنا نحن علينا أن نسعى إلى مكافحتها معا أنت وأنا والآخرون كي تغدو البلاد مرتعا لآلامنا, مرتعا لنا, لماذا لا يكون قبرنا في أوطاننا لنجد من يغسل عنّا نجاسة الدّهر قبل ان نُكفّن, لنرقد في تراب وطننا براحة وأمان لنجد من يصلّي علينا عندما نموت, لمَ لا تخبر أمك أنك تحبها كثيرا؟ لمَ لا تترجم ذلك الحبّ, لماذا لم تخبر أباك انك ممتنّ لكل ما قدمه لك؟,
لماذا ننتظر الآخرين حتى يموتوا كي نقول لهم كم نحبهم؟ لماذا لا نهبهم حبنا؟! ونمحنهم جائزة الأوسكار قبل موتهم ليهنؤوا بها, ونقول لهم كم نحبهم قبل أن نفقدهم, أوَ لم يرحل جدّك قبل أن تستطيع أن تقول له كم أنك تحبّه وهو في لحظاته الحرجة, كم أنك متعلّق به؟, كم أن طفولتك متورطة به إلى درجة تعجز فيها عن التفكير فيها لأن ذكرياتها الجميلة تجعلك عاجز أمام غدر الزمان وغدر الأيّام..
ثمة آلام تعتصرنا حينما نتذكر ذكرياتنا الغابرة التي لا نستطيع صناعتها من جديد في ظل محاولة الدهر افتراسه لنا, استحلفك بكل ساعات دراستك قبل الامتحان عندما كنت تقول لي: أريد أن أغفو خمس دقائق لأعود وأكمل المخصص للامتحان غدا, لأنك كنت تقول لي: ان كنت تريدي ان تأخذي العلامة التامة لا بد أن تنهي المقرر
استحلفك ببراءة تلك الأيام استحلفك بالعودة, استحلفك بتنسيق الفوضى ومواجهتها.. نسّقها ورتّبها انت وآخرون مثلك, لنحاول ان نقدم لأوطاننا ما انتفعنا به من بلاد الغربة.....
وان خذلك الوطن للحظات فاعلم أن هناك صاحب قلب كبير يصغي إليك ويتفهمك عد إليه وأخبره بما حدث لك, وكيف أن هناك من وضع العقبات في طريقك, عد إليه وأخبره بحالك وعسى كل شيء يأخذ مجراه من جديد عندما تعود أنت وكل الشرفاء العلماء الذين غادروه, عد إلينا فما عاد القلب يتّسع للحزن... عد إلينا ما عادت أمي كما كانت لقد كبرت وكبر معها أولادنا وأصبحت جدّة, عد الينا, استحلفك بقوّتي التي جعلتني انثر ما اختلج في قلبي, جعلتني انثر نقاط ضعفي التي ما عهدت بنشرها, استحلفك بالعودة, واستحلف كل من هم في خارجها بالعودة الى الوطن والمشاركة في بنائه استحلفك بأيام الطفولة الرائعة بالعودة الى الوطن...
أستحلفك بضحكات الأطفال أن عدْ أيها المغترب الى بلاد الوطن...