news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
مقالات
العقل فوق صهوة الحكمة ... بقلم : الدكتور مصطفى ماهر عطري

يمر قطار العمر عند معظم الناس كما يمضي كل شيء حولهم دون أن يستوقفهم مشهد أو يشغل تفكيرهم موقف في قليل أو كثير فلا مقياس للحياة عندهم و لا هدف يسعون نحوه و لا حكمة تسيطر على عقولهم في كيفية العيش على هذه الأرض بل نسوا حقيقة وجودهم و السبب الأول لخلقهم ؟!..فهم يعيشون حياتهم في عبث و فوضى و يقضون أيامهم في لهو و سهر و سمر و هم قلما حسبوا للزمن حساباً أو عرفوا للوقت قيمة و ما أكثر هؤلاء الذين يعيشون حياتهم بالطول أو بالعرض فتدركهم مساحة الشيخوخة أو يدركونها و هم في شباب العمر و يمرون مرور الكرام دون أن يتركوا بصماتهم عليه !..


أما الحياة عند بعضهم الآخر فهي لحظات و عبرة ممتعة مليئة و حافلة بالعلم و العمل و الخلق و الابتكار و التفكير يومهم في غدهم و عملهم في إنتاجهم و مفاهيمهم المتطورة نحو خلق السموات و الأرض و الوقت عندهم عبادة و الحياة عمل و انتاج و الكشف عن أسرار الوجود فلا حياة بغير علم و لا علم بغير حياة ...هؤلاء يرون في النوم مضيعة للوقت لأنهم خلقوا للعبرة و الفكرة و الحكمة لا ليجلسوا على شرفات المقاهي ينتظرون مرور قطار العمر الضائع و في أفواههم زفرة أركيلة أو سيجارة و الكلام عن الجار و الجارة ؟!...

 

سألت يوماً أحد المرضى من الشباب الشيوخ عن عمله و هم لم يتجاوز الخمسين من العمر فأجابني بأنه متقاعد ( مت قاعد ) نظراً لظروفه الصحية فقلت له : و لماذا لا نقول متواقف ( مت واقف ) ؟!.. فضحك مستغرباً من كلامي فقلت له :

 

لقد تغيرت مفاهيم العصر الحديث و مهما تقدم بك العمر أو تطور المرض فمن حق نفسك أن تريحها و لكن أنا أقول أيضاً : ( إن الذي يعمل أياً كان ذلك العمل لا يشعر بالشيخوخة أبداً ) !...

 

و هنا تذكرت قصة الفيلسوف الانكليزي جورج برناردشو عندما وقف يوماً يحتفل بعيد ميلاده التسعين و هو ما زال يتمتع بالصحة و الحيوية و النشاط عندما سأله أحد الصحافيين عن موعد اعتزاله لهذه الحياة الصاخبة ؟!...

 

 و قد حدثت هذه الواقعة قبل ستين عاماً تقريباً و قال يومها برناردشو بابتسامة ساخرة تعلو وجهه النحيل      ( أرجو أن لا يكون غرور الشباب هو الذي دفعكم إلى طلب تنحيتي !..عل أي حال أريد أن أؤكد لكم أنني لم أشعر في يوم من الأيام بحيوية و نشاط كتلك التي أشعر بها اليوم ... و إنني على أستعداد لأن أنازلكم بأي سلاح تختارونه و لو أنني شخصياً أفضل أن يكون القلم ذلك السلاح الرقيق هو و سيلة المبارزة التي تختارونها لمنازلتي !..) و في مساء ذلك اليوم جلس برناردشو يكتب مقالاً بعنوان ( شاب في التسعين !) و كان من أجمل مقالاته و قال فيه ( أليس غريباً أن يشعر من كان في مثل سني بدماء الشباب تجري في عروقه !..و لكن لما الغرابة ! إن الشيخوخة لا تصيب سوى المقعدين !... أما أنا فلم أقعد يوماً ...لقد قضيت عمري كله أعمل و أتعلم و أنتج و أفكر و أكتب و أمارس رياضتي المفضلة يومياً و لعل الشيخوخة بحثت عني في وقت أو آخر و لكنها لم تجدني لأنني لم أكن أبداً هناك في انتظار مجيئها !).

 

هكذا كان أجدادنا العلماء مثل برناردشو أما معظم الأحفاد أو بعض أنصاف العلماء و الفلاسفة في القرن الواحد والعشرين,فقد فقدوا الرغبة في الاستمرار في الحياة, بل هم نسوا تعريفهم لمعنى الحياة الحقيقي ,  والغاية من وجودهم؟!..

 

إن فلاسفة العرب في سن التقاعد أراهم يجلسون دائماً فوق مقعد مريح وسط إحدى الحدائق العامة أو فيركن صغير من أركان المقاهي الحديثة, حيث تمر أمامهم مشاهد الحياة التي تذكرهم بماضيهم البعيد , أو ربما انتهى بهم المطاف على فراش المرض, حتى ولو لم يكن عندهم علة ولا مرض؟!.. فالتقاعد عندهم هو نهاية الحياة, وبداية الموت!.. ولو تساءل شباب العرب الشيوخ أنفسهم يوماً أو لحظة ,لماذا يرضون بالموت مبكراً وهو أصحاء؟!..

 

ولماذا يرفضون العلم والعمل وهم في ريعان الحياة , ولماذا لم يبدأ بعضهم حياة جديدة بعد التقاعد ؟!. ولماذا يركن الإنسان العربي المعاصر للكسل والنوم والاستسلام للمرض؟!. لقد أثبتت البحوث العلمية الحديثة أن العقل لا يهرم,فقد يصاب الإنسان بالوهن وقد يُحسُّ الإنسان بالضعف , ومع ذلك يبقى ذهنه متقدا!, وتبقى ذاكرته قادرة على استيعاب كل ما هو جديد وحديث حتى وبعد أن يبلغ من العمر عتياً, إن التاريخ حافل بالأدلة على أن المواهب التي تمنح للإنسان تستمر في تفاعلها طالما أن العقل يدعوها إلى هذا الاستمرار , ومع الأسف فإن الملايين من الرجال والنساء على سواء يضيعون أفضل سنين حياتهم عندما يشعرون أنهم بلغوا سن التقاعد قبل الأوان كنتيجة حتمية لتوقفهم عن استخدام عقولهم أو أي عمل يعود بالنفع عليهم وعلى أمتهم ووطنهم الذي يعيشون فيه!...

 

ومن المؤسف حقاً أنه بالرغم من أن نمو جسم الإنسان يكتمل تماماً في العشرينات من العمر , إلا أن العقل يمضي في نموه نحو الأفضل....

ومن المؤسف حقاً أننا نهمل هذه الطاقة العقلية , وحتى بين عقول شبابنا , فنتركها بين جدران مظلمة حيث يعلوها الصدأ وتهرم وتموت مبكراً,لأن معظم العقول العربية المعاصرة لا تعرف معنى الحياة إلا على بعض مواقع الانترنيت التافهة ,وأمام شاشات الفضائيات الهابطة ,أو في جلسات المقاهي تنفث الأراكيل بلا تفكير أو حسن تدبير , منتظرين أمراض الحياة الحديثة والنهاية المحتومة , بعد أن لوث الإنسان المعاصر بيئته وأفسد صحته وعقله بأمور تافهة لا معنى لها , تشير أخر الإحصاءات العلمية إلى أن أربعين بالمئة من الأوربيين يعانون من الاضطرابات العقلية بشكل أو بآخر ولا توجد دراسة حقيقية لأبناء الأمة العربية,وربما فاقت الدراسة الأوربية " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم" ...لأننا نسينا حقاً أن العقل السليم في الجسم السليم والجسم السليم في العقل السليم.

 

ويظل الإنسان المعاصر لغزاً محيراً بعد أن أهمل العقل وأطلق لغريزته العنان في افتعال الحروب والمشاحنات فلم يعد يميز بين الحق والباطل أو بين الحلال والحرام....أو حتى بين المحبة والرذيلة....

 

ويبقى العقل الحكيم هو الذي يميز بين الخير والشر أو بين الأصيل والزائف....

2011-09-26
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد