ما من كتاب يمكنه أن يكشف عن الأرضية الاجتماعية والسياسية للانتفاضة التي واجهها نظام البعث في دمشق، مثل “الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين”.
لقد وضع المؤرخ الدكتور عبد الله حنا في هذا الكتاب جهدا بحثيا غنيا وعميقا يكفي لكي يجعله واحدا من أفضل الكتب في التاريخ السياسي المعاصر.
ويكفي الإطلاع على فهرسه الذي امتد لوحده الى 10 صفحات، لكي يرى القارئ والباحث أي عمل من أعمال التأريخ هو هذا العمل. حتى ليمكن القول انه لم يهمل شخصية ولا حزبا لعب دورا في صنع هذا التاريخ إلا وتناوله بالتحليل والتفصيل.
وعلى غير طبيعة الأعمال الأكاديمية التي يعدها مؤلفون بالاستناد الى مصادر مكتوبة، فان هذا الكتاب يستند الى معارف ومتابعات ووثائق ومحفوظات ذات طبيعة شخصية، الأمر الذي يمنحه وضعا متميزا كعمل من أعمال البحث الأصيلة. حتى ليمكن أن يكون مرجعا قائما بذاته، على عكس الكثير من الأعمال التأريخية التي لا تتعدى كونها “مكتوب على مكتوب”. ولأن هذا الكتاب “مكتوب على غير مكتوب” فان عمل الدكتور حنا يضعه في مصاف الكتب الاستثنائية التي لا غنى للباحث عنها، دع عنك القارئ الذي لن يجد دليلا للحياة السياسية السورية وتاريخها خيرا من هذا الدليل.
وعبد الله حنا، ليس رجل علم وخبرة فحسب، بل انه رجل ثقة أيضا، بموضوعيته واتزان تقييماته ونزاهة مقاربته. ولكنه، فوق هذا وذاك، باحث وثيق الصلة بما يكتب عنه. فالتاريخ السياسي لسورية المعاصرة جزء من مشاغله الشخصية، وليس البحثية فقط.
وهذا الكتاب الذي صدر حديثا عن دار “إي – كتب” هو المؤلف الخامس والعشرين بين سلسلة أعمال هذا المؤرخ البارز.
وإذ تقرأ كتابه الذي يناهز 370 صفحة، فكأنك تلج عالما تم تفكيك عناصره وأساسياته الى وحدات لتكتشف من ترابطها ما يصنع بيئة اليوم، وما كان يقف وراء أزمة النظام السياسي الذي قاده حزب البعث لنحو نصف قرن.
يتناول الدكتور حنا في كتابه جوانب رئيسية من الحياة السياسية الحزبية السورية في القرن العشرين. مؤكدا على الخلفيات الإجتماعية لقيام الأحزاب وتطورها وسياساتها. وهو لم يهمل في الوقت نفسه العوامل التراثية والخارجية المؤثرة في الحياة السياسية. وقد افسح العمر المديد للمؤلف ومشاركته في الأحداث في تقديم صورة واقعية لتطور سورية. كما تدعمت هذه الصورة بالدراسات الميدانية، التي قام بها سواء في الارياف السورية أم في المدن، مما اضفى على البحث لونا خاصا جعله يوازن بين النصوص المكتوبة والتاريخ التاريخ المروي ليقدم رؤية ثرية لخلفيات الأحداث التي دفعت الى الإطاحة بحكم البعث.
لقد ظهرت الأحزاب السياسية في سورية مع تبلور منطلقات النهضة العربية وتحديدا بعد زوال استبداد السلطان عبد الحميد 1909. وكوّنت هذه الأحزاب العمود الفقري للمجتمع المدني السائر في طريق النضج صعودا وهبوطا خلال القرن العشرين. ولكن هذه الاحزاب سرعان ما اصطدمت بحاجزين حدّا من انتشارها وتجذّرها في تربة المجتمع وهما:
سطوة الدولة السلطانية المهيمنة في العالم العربي.
والمجتمع الأهلي القائم على الولاءات العشائرية والطائفية.
ويُلاحظ ان الاحزاب تعرضت في معظمها إلى الاختراق من قبل المباحث السلطانية ورجال الطوائف والعشائر بهدف وضع الأحزاب تحت خيامها وتوجيهها وفق مصالح الحكام والطوائف والعشائر. وبسبب غياب الثورة الصناعية وهشاشة التطور البورجوازي بَقِيَ المجتمع المدني ومن ورائه الأحزاب مهيضا الجناح طوال عقود القرن العشرين.
بعد المقدمة التي تناولت خلفيات الأحزاب ومراحل تقدمها استعرض الباب الأول الأحزاب في أواخر العهد العثماني مخصصا فصلا للطرق الصوفية التي اعتبرها من احزاب أيام زمان.
الباب الثالث تعرض لأجواء تكوّن الأحزاب في عهد الدولة الوطنية العربية (1918 – 1920)، هذه الدولة التي كانت نقلة ملحمية نحو الدولة القومية الحديثة والمجتمع المدني.
الباب السادس تابع ظهور الأحزاب في عهد الاستقلال (1943 – 1958) وهي:
الحزب الوطني تجمع سياسي للتجار وكبار الملاك وفئات أخرى.
حزب الشعب حزب كبار الملاك والبورجوازية الحلبية وعدد من خريجي الجامعات الفرنسية.
الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه انطون سعادة.
الحزب الشيوعي المؤسس عام 1924.ومن مفكري هذا الحزب في ثلاثينيات القرن العشرين سليم خياطة المستلهم افكاره كما كتب من “وحي الاشتراكية ونهضة الشرق العظيمة، من وحي ماركس والنضال ضد الراسمال الغربي”. وخياطة هو المبادر لدعوة المثقفين عام 1934 إلى مؤتمر زحلة لبحث الوحدة العربية. ويعالج الكتاب في أحد فصوله مدى تأثر الحزب الشيوعي بالستالينية. كما يتتبع المسيرة الطويلة لخالد بكداش في الحزب الشيوعي.
الاخوان المسلمون وكيفية انتقال دعوة الجامعة الاسلامية من مصر إلى سورية، مع تبيان الفروق بين اخوان مصر واخوان سورية.
ويولي الكتاب اهمية خاصة إلى المرشد العام للاخوان المسلمين مصطفى السباعي وسياسته المتزنة والمعتدلة وكتابه “اشتراكية الاسلام” الصادر 1959. وكتب عن الشيخ محمد مبارك ممثل التيار الاسلامي الوطني العروبي.
حزب البعث العربي وهنا يكشف الكتاب عن حقيقة ان كلا من الحزب الشيوعي السوري وعصبة العمل القومي ناديا قبل البعث في أوائل الثلاثينيات بالوحدة العربية. وجاء ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار فأسسا حزب البعث – وهو من ثمار النهضة العربية – ودعيا إلى “وحدة الأمة العربية وحريتها”.
الحزب العربي الاشتراكي وهو وليد حركة الشباب الحموية المناهضة للسيطرة الإقطاعية لأعيان حماة. وقد لعب زعيم الحزب اكرم الحوراني دورا في توحيد صفوف الفلاحين من سنة وعلويين ومسيحيين مع الطبقة الوسطى الحموية محققا جبهة طبقية وطنية عريضة توّجت نشاطها بتنظيم مهرجان حلب الفلاحي في 15 – 9 – 1951. وبعد هذا التاريخ بقليل اتحد هذا الحزب الفلاحي مع حزب البعث حزب الطلاب والمثقفين.
ولعل من مواضيع الكتاب الشيّقة، الباب الذي يستعرض الشخصيات الحزبية، التي كان لها حضور فكري فاعل ودور بارز في الأحزاب التي انتمت إليها. والحديث عن تاريخ هذه الشخصييات الحزبية وما انتجته يلقي أضواء حية ساطعة على الأحزاب ونشاطها. كما يقدم من خلال هذه الشخصيات صورة واقعية للمجتمع السوري وتحركاته. وهذه الشخصيات هي:
عبد الرحمن الشهبندر العلم النهضوي ومؤسس حزب الشعب 1924 (وهو غير حزب الشعب الحلبي)..عبد الرحمن الكيالي (الحزب الوطني).. عبد الوهاب حومد (حزب الشعب وواضع مشروع دستور 1950).. عدنان الأتاسي (ابن هاشم اتاسي ومن حزب الشعب)..نبيل الطويل من رجالات الإخوان المسلمين ومؤلف عدد من الكتب الثرّة).. حسن هويدي (المراقب العام للاخوان المسلمين ومؤلف عدد من الكتب).. جمال الأتاسي (المفكر البعثي ذو التوجه الانساني).. بدر الدين السباعي (مؤلف ومترجم وناشر عدد من الكتب الماركسية).. ظهير عبد الصمد (من النشأة الدينية إلى الحزب الشيوعي).
يتناول الباب الرابع عشر الجمهوريات الثلاث من جمال عبد الناصر إلى حافظ الأسد مرورا بجمهورية برلمانية. فالجمهورية العربية المتحدة تمنع الاحزاب وتقيم حزبا هلاميا لا لون له وتؤسس انظمة المخابرات السلطانية، التي طورها حافظ الأسد. والجمهورية العربية السورية (1961 – 1963) تعود للحكم البرلماني وحرية الاحزاب كما كانت قبل الوحدة بين سورية ومصر. واتصف عهد هذه الجمهورية باحتدام الصراع الطبقي داخل المجتمع دون أقنعة. وأخيرا يمهد الانقلاب العسكري في 8 آذار 1963 الحكم للبعث بقيادة العسكر. ويولي المؤلف اهتماما واضحا بدور العساكر وتفكك البعث واحتلال جناحين منه السلطة ومن ثمّ اعتلاء اللواء حافظ الأسد سدة الرئاسة بانقلاب تشرين 1970.
ويخصص المؤلف بابا للحراك السياسي الحزبي في الثلث الخير من القرن العشرين. وبابا آخر للأجواء الاقتصادية –الاجتماعية التي تحركت الأحزاب في فضائها.
ويعقد المؤلف فصلا للمقارنة بين السلفية التقليدية وسلفية تنويرية عفا عليها زمن الريع النفطي. وكان قد القى الأضواء في فصول سابقة على السلفية التنويرية ودعاتها في بلاد الشام.
اما الأحزاب العلمانية في الثلث الأخير من القرن العشرين، التي اصابتها أيضا جائحات الهبوط وحدّت من نشاطها قبضة الدولة امنية، فانها تحتل حيّزا واسعا من الكتاب. أما الأحزاب الدينية فكان لها شأن آخر يعالجه الكتاب في فصل مستقل تحت عنوان: “الإخوان المسلمون وتحركاتهم في جمهورية البعث”.
***
والمؤلف من مواليد ديرعطية في ريف دمشق 1932.
حاز على إجازة في التاريخ من الجامعة السورية أيام عزّها 1958.
نال شهادة الدكتوراة في الفلسفة (تاريخ) من جامعة لايبزغ عام 1965. عنوان اطروحته : “حركة التحرر العربية في بلاد الشام في مستهل القرن العشرين”.
سُدّت في وجهه أبواب جامعة دمشق بسبب سياستها الشمولية.
عمل مدرسا للتاريخ في ثانويات درعا ودمشق، ثمّ أُبعد عن التدريس تعسفا “منفيا” إلى مديرية زراعة ريف دمشق بين عامي 1974 و 1980.
خريف 1980 نُقل إلى مدرسة ابو ذرالغفاري الإبتدائية في القابون من ضواحي دمشق.
عمل مدرسا لمادة تاريخ الحركة العمالية العربية في المعهد النقابي المركزي، التابع للاتحاد العام لنقابات العمال.
أُعيد – مغضوبا عليه – من القيادة البيروقراطية لاتحاد نقابات العمال إلى تدريس مادة التاريخ في ثانوية فايز منصور بدمشق. ويعود سبب “الغضب” إلى فضحه لممارسات البورجوازيات البيروقراطية والطفيلية في نهب القطاع العام ومال الشعب.
عمل في الاتحاد العام للفلاحين لكتابة تاريخ الفلاحين وقام في عامي 1984 و 1985 وبمعونة اتحاد الفلاحين في جولات ميدانية قابل خلالها أكثر من 400 فلاح من جميع المحافظات.
لم تَرُقْ كتابة التاريخ الواقعي للفلاحين القيادة الحاكمة فقامت باتلاف المجلدات الثلاثة حول المسألة الزراعية والحركات الفلاحية.
ولهذا طلب المؤلف عام 1987 الإحالة على التقاعد في سن مبكرة صونا لكرامته.
وهو منذ ذلك الحين متفرغ للبحث والتأليف في التاريخ الإجتماعي المغَيَّب من معظم المؤرخين السوريين.