في أعقاب الحرب العالمية الأولى أخذ مفهوم انقسام المجتمع إلى أغنياء وفقراء، ومن ثمّ إلى مستثمِرين ومستثمَرين، ينمو باطراد بفعل التأثير المزدوج للثورة الفرنسية البرجوازية 1789 والثورة البروليتارية الروسية 1917.
وكان هذا المفهوم - القديم في التاريخ قِدَمَ المجتمعات الطبقية - قد توضّحت معالمه قبل الحرب العالمية الأولى على يد (الديمقراطيين الثوريين)، أمثال فرح أنطون وشبلي شميل، ولكنه أخذ الآن طابعاً أكثر شمولية واتساعاً بفضل التطورات السياسية والاقتصادية - الاجتماعية، التي تسارعت وتائرها بعد الحرب العالمية الأولى ودخول المشرق العربي في دائرة الحكم الإمبريالي المباشر.
قبل الحرب العالمية الأولى وبعد زوال الحكم الاستبدادي للسلطان عبد الحميد على أثر
قيام ثورة الاتحاد والترقي عام 1908، ساد نوع من الديموقراطية النسبية في سماء
الدولة العثمانية، وظهرت الأحزاب السياسية ومنها الأحزاب العربية. في تلك الأجواء
قام الجناح اليساري في الحركة الوطنية العربية الناشئة بإصدار صحيفة (الاشتراكية)
في دمشق عام 1912. حصل على ترخيص الجريدة حلمي الفتياني، الذي اشتهرت عائلته في
نابلس والقدس بتولي عدد من رجالها منصب الإفتاء وعاش حلمي فترة شبابه في دمشق وتزوج
من عائلة دعدوش الدمشقية، وأسهم في الحركة الفنية المُبكِّرة في سورية مع أبي خليل
القباني، ورافقه في رحلته إلى مصر تجنباً لضربات القوى المحافظة المعادية للفن
والمسرح.
ويبدو أن حلمي الفتياني تأثر أثناء إقامته في مصر بالجو التنويري السائد بين عدد من مثقفي مصر، وعندما عاد إلى دمشق بعد زوال الاستبداد الحميدي اشترك مع عدد من المثقفين التنويريين في نشر الأفكار الاشتراكية. وحصل عام 1912 على ترخيص بإصدار صحيفة (الاشتراكية)، التي عطلتها السلطات بعد شهر من صدورها واضطر حلمي الفيتاني نتيجة مضايقات السلطة إلى مغادرة دمشق، تاركاً ابنته الوحيدة لدى أهل زوجته، وعاد إلى نابلس، وهناك شارك بعد الحرب في الحركة القومية العربية، وعُرف في نابلس باسم خطيب الشعب، وتوفي في نابلس في مطلع الحرب العالمية الثانية.
هذه المعلومات عن حلمي لخّصناها من رسالة عادل الحموي - حفيد حلمي من ابنته
الوحيدة، التي تركها في دمشق عام 1912- إلى (الرفيق زياد الملا المحترم) بمناسبة
نشره عام 1990معلومات عن حلمي الفيتاني في مجلة (دراسات اشتراكية) وعادل الحموي من
المثقفين، الذين شاركوا بنشاط في الحركة الثورية بدمشق أواخر ثلاثينيات وأوائل
أربعينيات القرن العشرين ولزياد الملا الفضل الكبير في نشر سيرة حياة الشيوعيين
الأوائل، كما سيرد معنا.
المناهل، التي استقى منها الرواد الأوائل زادهم الفكري هي:
ـ التوجهات الثورية واليسارية في حركات الثورات البورجوازية، وتحديداً الثورة
الفرنسية.
ـ الحزب الشيوعي الألماني. فقد نهضت الحركة الشيوعية الأرمنية في بيروت باسم منظمة
سبارتاك والجناح اليساري من الاشتراكية الألمانية اتخذ عام 1919 اسم قائد ثورة
العبيد سبارتاكوس وكامل عياد، الأب الفكري للماركسيين، تأثر بالحزب الشيوعي
الألماني أثناء دراسته في برلين والأمر نفسه ينطبق على المهندس إحسان بهاء الجابري
من حلب ,الذي درس في ألمانيا ونشط في صفوف الحزب الشيوعي.
- الحزب الشيوعي الفرنسي ومواقفه المؤيدة لحركات التحرر العربية ويلاحظ أن الجامعات
الفرنسية كانت المدرسة الأساسية للطلاب السوريين واللبنانيين الشيوعيين منهم
والليبراليين.
- أثر ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا ونشاط الكومنترن بما أسسه من مدارس لتدريب
الكوادر الشيوعية وما أرسله من مندوبين لمساعدة الأحزاب الشيوعية العربية الناشئة
وتثقيفها.
- التراث العربي الإسلامي وما اختزنه من نماذج ثورية كانت منارة للمتطلعين إلى
العدالة الاجتماعية.
- الوضع الاقتصادي الاجتماعي، الذي أخذت مفاعيل التغيير، بعد 1918 تهزّه مخلخلة
بناه الفوقية، ولكن واقع ضعف الطبقة العاملة أو وجودها الجنيني خلق إشكالية عانتها
الأحزاب الشيوعية في البلدان غير المصنعة. وهنا نرى أن الفكر سبق الواقع الاجتماعي،
وهذا الأمر أوجد خللاً بين النظرية والتطبيق.
***
يمكن تقسيم نشاط الحزب الشيوعي حتى مطلع الاستقلال إلى المراحل الأربع التالية:
المرحلة الأولى، التي بدأت مع تأسيس الحزب الشيوعي عام 1924 وانتهت عام 1930 وفي
هذه المرحلة برز اسم مؤسسي الحزب اللبنانيين، النقابي فؤاد الشمالي والمثقف
التنويري يوسف إبراهيم يزبك. وفي هذه المرحلة جرى وضع اللبنات الأولى في صرح بناء
الحزب، وفي دمشق برز اسم ناصر حدّة وفوزي الزعيم كمؤسسين للحزب الشيوعي بدمشق
بمساعدة (الرفاق اللبنانيين).
المرحلة الثانية (1930 - 1935)، التي تبدأ مع إعلان الحزب الشيوعي السوري برنامجه
المطبوع الصادر في 7 تموز 1931 من خلال وثيقة تبيّن غايته القصوى وشيئاً من
برنامجه. جاء في البرنامج: (إن النظام الرأسمالي ليس مُنزَلاً من عند الله، كما
يدّعي البرجوازيون).. (إننا نريد أن نضع حداً لاستثمار جهود العمال السوريين)..
(وكذلك الفلاحون فإنهم مستثمَرون من الإقطاعيين وخدم الاستعمار والمرابين ورجال
الدين والحكام).. (النضال المستمر ضد الاستثمار الإقطاعي والرأسمالي).. (إنشاء
حكومة العمال والفلاحين في سورية).. (الاستقلال التام والوحدة السورية، سحب الجيوش
المحتلة، إلغاء الانتداب).. (الإخاء والتضامن بين جميع الشعوب المظلومة، وإيجاد
جبهة متحدة بينها للنضال ضد الاستعمار، وأن تتحد مع طبقة العمال العالمية، التي هي
العدو الأكبر للاستعمار)..
وبعد أن تشيد وثيقة الحزب الشيوعي السوري بالمثال التاريخي لتآخي الشعوب المختلفة
في (اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية)، تطالب بـ: (تحرير الجموع السورية
العاملة بدون فرق بين الجنسيات والأديان...).. (إيجاد جبهة متحدة بين جميع البلدان
العربية للنضال والتضامن المشترك ضد الاستعمار) و(إيجاد حلف بين العمال والفلاحين
في البلاد العربية).
وفي هذه الفترة برز دور النقابي اللبناني فؤاد الشمالي كمؤسس للحزب، وصعد نجم سليم
خياطة، ابن طرابلس الشام، كمؤلف لعدد من الكتب ذات النكهة الماركسية. وفي دمشق برز
في حي السمانة فوزي الزعيم ابن الشيخ صلاح الدين الزعيم شيوعياً مرهوب الجانب من
أعداء الشيوعية بسبب قوة شكيمته. ويقول المحامي الدكتور مصطفى أمين، الذي تعرّف على
فوزي الزعيم عام 1937 عن طريق مصطفى العشا وأحمد العشا اللذين كانا عضوين في الحزب
الشيوعي السوري، أن جد فوزي الزعيم تزوج بامرأة من يبرود، وبحكم تردد فوزي إلى
يبرود تعرَّف على ناصر حدة، وهو من يبرود، وانتسب على يديه إلى الحزب الشيوعي وكان
ناصر حدة حتى عام 1936 يشغل المركز القيادي الأول في الحزب الشيوعي وفوزي الزعيم
كان مسؤول منظمة دمشق الشيوعية.
ويبدو واضحاً للمتتبع للأمور أن خالد بكداش تعرّف على الحزب الشيوعي عن طريق ناصر حدة وهذا ما أشارت إليه ذكريات الشيوعيين القدامى. وتنبع أهمية شهادة مدرس الأدب العربي إسكندر نعمة، المنشورة في هذا الملف، في إلقائها الضوء على إهداء ناصر حدة لخالد بكداش (البيان الشيوعي) المكتوب بالفرنسية، وقيام بكداش بعمله الريادي في ترجمة هذا البيان ونشره في العربية عام 1933. ولكن لا نعلم، مع الأسف، سبب تجاهل خالد بكداش لدور ناصر حدة فيما كتب عن ماضي الحزب.
المرحلة الثالثة (1936 - 1940) وهي استمرار للمرحلتين الأولى والثانية، ولكن بنوعية
جديدة في مجال تكوّن الحزب سياسياً وتنظيمياً وفكرياً، وبرز ذلك واضحاً في غزارة
البيانات (المناشير) والكراريس والمطبوعات النقابية والأدبية المختلفة ومع هذه
المرحلة بدأت ترتسم قيادة الشاب الألمعي والوطني المثقف والخطيب المفوّه خالد بكداش
العائد من الدراسة في موسكو أوائل 1937، وقد دفعت قيادة خالد بكداش بالحزب قدماً
إلى الأمام، وقدمت زخماً ملحوظاً للحركة الشيوعية السورية والعربية.
بعد توقيع مشروع المعاهدة بين الكتلة الوطنية وحكومة الجبهة الشعبية في باريس
وتأليف الوزارة السورية الكتلوية في أواخر سنة 1936 ونجاح برلمان كتلوي، دخلت سورية
في العهد، الذي أطلق عليه (العهد الوطني الأول) (1936- 1939). ونتيجة لذلك تمكّن
الحزب الشيوعي السوري من العمل لأول مرة في تاريخه بصورة علنية في سنة 1937. ففتح
مكاتب له في دمشق وحمص وحلب وغيرها. كما تمكن الحزب بتاريخ 15 أيار 1937 من إصدار
جريدة (صوت الشعب)، التي أغلقتها السلطات الفرنسية أواخر 1939، وعادت للصدور في 20
كانون الثاني 1942. كما استطاع الحزب إصدار الكثير من النشرات والكراريس وتمكن من
نشر آرائه في عدد من الجرائد والمجلات المختلفة.
ولكن تراجع الحركة الوطنية السورية وصعود القوى اليمينية في فرنسا والنشاط الوطني
للحزب الشيوعي أدى في 19 أيلول 1939 إلى صدور قرار من المفوض السامي الفرنسي بحل
الحزب الشيوعي وإغلاق مكاتبه واعتقال أعضائه إذا اجتمعوا أو تظاهروا.
المرحلة الرابعة (1940 - 1945) وتنقسم أيضاً إلى فترتين: الأولى: فترة العهد السري
وتمتد من أيلول 1939 إلى تموز 1941 والثانية: فترة العمل العلني وتمتد من تموز 1941
إلى ما بعد عام 1945.
وفي هذه الفترة التفّ حول الحزب جمهرة من المثقفين القادمين إلى الحزب من بوابة
النضال الوطني والمعجبين في الوقت نفسه بانتصارات الدولة الاشتراكية وبطولة
أبنائها، والمتلهفين إلى ارتياد منابع الفكر الماركسي.
عُقد (المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي في سورية ولبنان) في أواخر 1943 أوائل 1944، في
بيروت، في ظروف دولية وداخلية ملائمة. مقررات المؤتمر معروفة ولا يتسع المجال هنا
للدخول في تفاصيلها.
ما نريد الإشارة إليه هنا هو أن الحكم على بنود الميثاق وتقويمها لا يمكن أن ينطلق
من مفاهيمنا الحالية ومن نسبة القوى الطبقية الحالية، بل يجب فهم هذا الميثاق في
إطار مفاهيم تلك السنوات والمستوى الثقافي لواضعي البرنامج ومدى تطور القوى المنتجة
آنذاك ونسبة القوى الطبقية في أوائل أربعينيات القرن العشرين على أبواب الجلاء،
وسنتوقف عند منتصف أربعينيات القرن العشرين.
المؤرخ د. عبد الله حنا