" روح إنشاء الله بتزكّم " هي الدعوة الغريبة التي اعتادت أمي الحنونة منذ بداية زياراتي للمسؤولين أن تدعوها لي صباحاً ومساءً منطلقة من أن الزكام يجعلني لا أشتم رائحة الفساد فأبقى يعيداً عن مشاكل الإحساس به أو العبث مع أصحابه كما يحميني من الإغماء نتيجة لروائحه المركزة والمنتشرة بقوة في تلك المكاتب
ولكن لبساطتها غاب عن بالها أنني لو زكّمت فلن تفيدني البصلة التي سأكسرها على أنفي كلّما هممت بزيارة أحد المسؤولين فدأبتُ على الطلب منها كل مساءً أن تدعو لي بالزكام إلا في الأيام التي أقرر فيها زيارة مسؤول لسؤاله عن سر العلاقة بين الشمّاعة و العلّاقة فأقول لها مازحاً أمي لا تدعي لي أن أزكّم فأنا بحاجة لأنفي كي أكسر عليه بصلة كما حصل عندما اتصلت بالمفتاح لتحديد موعد مع القفل فبادرني بالسؤال :
هل اقتنعت أخيراً بضرورة تواصلك معي كي تصل للمنصب الذي تحلم به ؟
هل فهمت أن كل هذه الأساليب من التشهير والإساءة لإداراتك المتعاقبة لا تنفع ؟
وأنها تؤدي إلى ردّات فعل عكسية خصوصاً لدى المسؤولين الأعلى الذين يحبون العمل بهدوء وبدون أي تشويش أو شوشرة
فقلت يبدو أنني لم أفهم بعد ولكن أرجو منك تحديد موعد لي لمقابلة السيد المدير
فقال بأي خصوص
قلت هو مجرد استفسار عن موضوع ما ولا تهمك تفاصليه ولا تعنيك فهي ليست ذات تأثير مادي
فقال فليكن رغم أنك تعلم أن السيد المدير مشغول جداً ولكن كي تفهم أنه لم يأخذ منك موقفاً رغم عدائيتك الواضحة تجاهه
وقبل أن يتابع قلت كفى المرء فخراً أن يشهد له مفتاحه
فضحك وقال حسناً فلتأت غداً صباحاً قبل بداية الدوام وقبل أن يأتي الموظفين للدوام وكما تعلم السيد المدير متابع جداً ويفني عمره في خدمة المديرية داخل وخارج أوقات الدوام
ورغم كرهي للاستيقاظ المبكر ولكن وافقت أملاً في معرفة سر تلك العلاقة بين الشمّاعة والعلّاقة وانتهى الكلام بالاتفاق على الموعد
ولأنه و لله الحمد دعوات الوالدة مستجابة فقد استيقظت بلا أي عرض من أعراض الأنفلونزا بكافة أنواعها من أنفلونزا الطيور إلى أنفلونزا البشر
وما إن دخلت المبنى حتى راحت روائح الفساد تعبق بالمكان وبدأت تزداد حدة طرداً مع اقترابي من المكتب الخاص بالسيد المدير فدخلت مكتب أمانة السر حيث ينتظر الرعناء ولم يكن هناك أي أرعن - صاحب حاجة - وحده المستخدم كان قد استغل الزمن ليجلس مكان أمين السر ويتكلم بوقاره فقلت له أريد أن أقابل السيد المدير فقال متنعماً اكتب اسمك على هذه الورقة فكتبته طائعاً وقام ومشى بكل هدوء وفتح باب المكتب الخاص بحركة استعراضية رشيقة فخرجت غمامة فساد أغلقت كل مسام الهواء فضاق نفسي وكاد يغمى علي من رائحة هذا الفساد المعتق التي لا تكتفي بتخريش المجاري التنفسية بل تمتد للمجاري الهضمية المجاورة لها من مدى تركيزها وحدتها وتمنيت حينها لو أنني طلبت من السيدة الوالدة أن تدعو لي بالزكام
وما هي إلا دقيقة حتى عاد المستخدم وسألني ماذا تحب أن تشرب قلت له لا شيء شكراً فقال إن السيد المدير لديه ضيف وهو يقول لك ما إن تشرب قهوتك حتى يتفرغ لك فقلت له بإحساس طاووسي متناسب مع العظمة التي أحسست بها من اهتمام السيد المدير حسناً إذن وجلست أحاول عبثاً أن أتذكر محاسن موتى مكتب المدير في كلّ الإدارات المتعاقبة
ويبدو أن جلسة الضيف قد طالت فقلت لنفسي فلأتمشى قليلاً في البهو الفخم الخاص بجناح السيد المدير وما إن هممت بالخروج حتى صادفت عند الباب أحد المتعهدين الفاسدين الذين يحتكرون تنفيذ معظم أعمال المديرية فتحاشى النظر إلي تحاشي المذنب وتحاشيت النظر إليه تحاشي المشمئز ودخل مكتب الأمانة وخرجت أنا منه وعند وصولي إلى البهو كان الضيف يخرج من الباب الخاص بالسيد المدير فصبّح عليّ وسألته ماذا تفعل هنا في هذا الصباح الباكر فقال طلبني السيد المدير فقلت له وأنا لدي موعد معه الآن فقال بتهكم لن يراك فقد طلب متعهداً آخر فقلت له رأيته ولكن أظن أن موعدي قبل اسمح لي الآن سأراك لاحقاً فضحك وقال سأنتظرك هنا فقلت في نفسي لا يعنيني فلينتظر حتى ينتهي موعدي ودخلت مكتب الأمانة من غير حتى أن أسمح لنفسي أن أتسأل ماذا يفعل المتعهدون في هذا الوقت في المديرية التي لم يبدأ فيها الدوام بعد
وفي تلك الأثناء خرج المستخدم من مكتب السيد المدير بحركاته الرشيقة فرحاً وقال موجهاً كلامه لي إن السيد المدير يعتذر منك فهو لا يستطيع أن يراك الآن وقال للمتعهد الفاسد تفضل السيد المدير بانتظارك
فلم تضرب الفيوزات الخاصة بي وكل ما هناك أنني خرجت مسود الوجه ووجدت المتعهد الآخر بانتظاري وقال لي ألم أقل لك ويبدو أنه أشفق على الموقف الذي وضعت نفسي فيه وقال لا تحزن القصة فيها مصاري فقلت كيف
تردد في أن يقول لي ولكن يبدو أن شفقته انتصرت على مصالحه فقال طلبني صاحبك يقصد المدير بخصوص المشروع الذي تم الإعلان عنه وسألني بكم يناسبني السعر فقلت له بكسر واحد بالمئة فقال بكل وقاحة إذا أعطيناك اياه بضم ستة بالمئة هل تعطينا السبعة بالمئة قلت له باختصار لا لأن الاسعار تصبح مرتفعة جداً وقد يتم إحالة الموضوع إلى التفتيش فقال لي لا تحسب حساب التفتيش ولا كل الجهات الوصائية فهي على مسؤوليتي فلم أقبل فاتصل بالمتعهد الثاني أمامي وجاء ليوقع معه العقد
فقلت له ماذا تقول والمناقصة واللجان فضحك وقال كلو تحصيل حاصل
فتركته وأنا أدراي هزيمتي للمرة الألف أمام الفساد ورجاله وقبل أن أصل إلى مكتبي وكانت طليعة الموظفين المجدين بدأت بالتوافد على المديرية التقيت بمن يسمونه المعقد أو المتحجر أو المتشرّف ويعترفون بسرهم أنه أفهم موظف في المديرية ولكنه شريف ولا يقبل بالخطأ ولديه مشاكل مع كل رؤسائه فبادرته بالتصبيح ورد علي وألحق كلامه بتهكمه المعتاد على غير عادتك قلت كان لدي موعد مع السيد المدير ولكنه لم يقابلني فقال لي ومنذ متى تتردد على مكتب المدير قبل بداية الدوام فقلت هي المرة الأولى وهي أيضاً الأخيرة فلم يستقبلني رغم أنني حددت موعد فضحك ضحكة قد تكون هي الأولى منذ سقوط بغداد وقال ألا تعلم أن هذا الوقت مخصص للأمور الخاصة فقلت له المفتاح الغبي لم يقل لي وكل ما كنت أريده هو الاستفسار عن العلاقة بين الشمّاعة والعلّاقة فقال وضح لي أكثر فشرحت له ما يشغل بالي وأعاد ضحكته وقلت في نفسي إن ضحك مرة ثالثة فسأشتري نصف ورقة يانصيب لأنه يكون في يوم واحد ضحك أكثر مما ضحك طوال عمره وقلت له هل تعرف أي شيء عن هذه العلاقة فقال :
ببساطة العلّاقة هي لتعليق الأشياء مهما كانت نوعيتها أما الشماعة فهي لتعليق أشياء محددة فالفرق بين العلّاقة والشمّاعة هو الفرق بين تعيين شخص بمنصب بغض النظر عن فساده والبحث عن أفسد شخص لتعينه بذلك المنصب وتابع بابتسامة تبدو معلقة على فمه ومتناقضة مع ملامح وجهه هل فهمت ؟
قلت هي وجهة نظر واتجهت بنظري إلى داخلي وقلت بيني وبين نفسي هل فهمتي ؟
فأغمضت عينيها شهرزاد . . . متفائلة أن تنقذها هذه الإجابة من سيف الجلاد . . . فإن تم ونام شهريار من غير أن يفاجأ العباد . . . يتبع