بالنسبة للكاتب، المكتوب نوعين: أولاً: موضوعي: وذلك عندما يتحدث عما لا يتعلق به. ثانياً: ذاتي: وذلك عندما يتحدث بما يتعلق به. وبعد حوالي الألف صفحة السابقة التي خطتها يدي. هذه هي الصفحة الأولى التي تتسم بالطابع الذاتي. اذ لم احرك يدي؛ كي اكتب بل هي حرَّكت نفسها بنفسها. فهذا الكلام الذي سأكتبه بخاطري، وذهني منذ سنين كثيرة قد خلت .
انا شاب ضعيف البصر. وهذه علامة فارقة بالنسبة لكثيرين، ومُمَيِزَة بالنسبة لآخرين.
ولدت وانا انزف دماغيًا فأجريت لي عملية وعمري شهر ويوم. وبعد عامين أُجرِيَت آخرى. الى عمر الثانية عشرة اذ اصبح رأسي يؤلمني، واتقيأ فتداويت كالتهاب معوي. الى ان بدأ بصري يخبو، وكان ذلك بمثابة مؤشر قوي يدلل على عودة ارتفاع الضغط؛ لطول قامتي في عمر النمو.
فاجريت لي عملية؛ لنبديل الانبوب المركب والذي يمرك، السائل الدماغي من الرأس للبطن، وذلك في دمشق ب18-8-1998، وعدت للاذقية بعد أيام. وحينها بدأت مرحلة جديدة وجدية من حياتي مع ضعف البصر. ففقدته نسبيًا بالعين اليمنى؛ بسبب ال(غباشة)، التي افقدته قوته واقعيًا، مع انها العين الأقوى من حيث القدرة والاستطاعة، لولا الغباشة التي جعلتني أرى من خلالها واحد من عشرة، بالتصالب العصبي مع العصب السمعي للأذن اليسرى اذ فيها ضعف ايضًا. فاصبحت والى اليوم العين اليسرى (الضعيفة) هي المسند والمرتكز.
لا أعرف لماذا اكتب هذا. ربما للإجابة عمن يتسأل، أو ربما يتمنع خجلًا عن هذا الأمر، وخصوصًا ان مرت حوالي الثلاثة عشرة سنة. اذ لن اطيل في الطب؛ لأن المقام هنا ليس للطب.
وقد قال لي أبي: (بأن بصري سيعود، بعد أن اجريت لي العملية. وستزول آثار ارتفاع الضغط. لكن تحديد الوقت ليس بالأمر السهل). وقد بقيت على هذا الأمل، وأتسلى برجاء الانتظار مدة اربع سنين.
ففي سنة 2002 توجهت مع العائلة لألمانيا، وعندها فحصني طبيب للعيون. وعندما استوضحت نتيجة الفحص، اومأ إلي أبي بأن مدة عودة البصر غير معروفة. وحين ألحيت قائلًا: (المهم سيرجع البصر، أليس كذلك؟). فقال بأنة خجولة: (انشاءالله) فاستوضحت: (الن يرجع). فقال: (لا والله يا بابي). فتأثرت وحزنت حينها؛ لأن واقعًا جديدًا، وجدِّيًا قد ارخى بظلاله الثقيلة عليَّ.
كان ذلك بالنسبة لي اقصى من الفقد الجزئي للبصر ذاته؛ لأنه كان مؤقتًا بحسب مفهومي حينها.
لن أسأل نفسي: (لو كنت عوض ابي هل كنت سأخفي عن ولدي حقيقة بأنه لن يعود كأترابه من البشر يبصر؛ لأن هذا السؤال، قاسي).
تعبت كثيرًا حتى تأقلمت مع الواقع الجديد، فكان لي ذلك ولو بعد حين.
اليوم، وبعد طوال زمان. اعتبر بأن الله، قد انعم عليَّ فيما انعم بموهبتين اثنتين: الأولى: أني أحب كل الناس. والثانية: ضعف البصر.
لن أشرح الأولى، مع انه على أي حال، قد لا اُصدق في وجود مثل هذه الموهبة. لكن الثانية تحتاج لبعض الشرح. اذ اشعر بقيمة ضعف البصر، كمحفز لي للقيام بكثير من الأشياء التي اشعر بواجب المسؤولية للقيام بها. أسوة بكون الكثيرين يقولون لي بان ايمانهم بالله، يقوى ويترسخ عندما يروني. اذ ابشرهم بجلاليته، من خلال ضعفي اذ فيه تكمن قوتي.
افخر كون الله قد اعطاني هذه الموهبة؛ كي اكون نور للناس، وانا اصغرهم.
هو خصني بالضعف البصري. واشعر بانه قد مدَّني بامور آخرى كثيرة. أنا أسعد بذلك، اذ من الضروري ان يكون في الإنسان، ما يميزه عن غيره، مع أني كثيرًا ما خاطبت الله؛ كي يخلصني من حمل هذا الصليب الثقيل.
اليوم وباعتباري اقوم بما يتوجب عليَّ القيام به، بحسب تقديري. فأنا لا اعد نفسي ضعيف البصر بل مَن مِن حولي هم الأقوياء، ولست انا الضعيف.
كنت اشعر بأن ذلك هو حاجز يسترني عن باقي الناس، ولكن وسرعان ما تلاشى هذا الأمر.
في النهاية وكما البداية اشكر الله، كما كل لحظة.