وقد صار الوطن ابناً . . .
دائرة الطباشير قصة كانت ترويها الجدّات للأحفاد فتزرع في خيال الطفولة معنى التضحية وينمو في الفكر ورد انتصار الأمومة و تُقلع أشواك الشر من تربة العطاء . . .
وفي القصة تقوم الأم الحقيقية و مع كل إحساسها بالظلم والغبن بالتخلي عن طفلها لتلك التي تدّعي أنّها أمه كي لا تقع نتائج المشادة والمنازعة عليه فيتأذى و ترضى بالمعاناة والألم بأخذه منها مقابل بقائه سالماً
الآن وهذا القدر يرسم دائرة الطباشير حول الوطن وكلّ من الموالاة والمعارضة يدعي أنّه الأم وأنّ همّه إنقاذ الوطن فتحشد الموالاة قواها من الحريصين على الوطن ولا يبخلون عليه حتى بأرواحهم من غير أن تعنيهم السياسة إلى المتسلقين والمتملقين والمستفيدين من الأخطاء والعيوب والفساد الذي ينخر هيكله الإداري والسياسي
وتلمّ المعارضة أطياف أنصارها المنقسمين أخلاقياً ودينياً واجتماعياً وسياسياً من المنادين بالإصلاح إلى أتباع المؤامرة . . . ومن المُغرَّر بهم إلى المغرِّرين . . . ومن الرافضين للواقع إلى الحاقدين عليه . . . ومن ساكني القصور والفنادق إلى من ليس لديهم مأوى . . . ومن المدعومين خارجياً إلى المقهورين داخلياً . . .ومن المستقلين بقرارهم إلى من يأخذون تعليماتهم من الأعداء . . . ومن الأحرار إلى التابعين وأتباع التابعين . . . ومن السلفيين إلى الشيوعيين . . .ومن أنصار الحضارة إلى أتباع أبي جهل . . . ومن الدنيويين إلى المتدينين
ويئن الوطن باحثاً في كلّ العيون عن طيف أمه المستعدة حتى للتخلي عن حكمه و امتلاكه لتنجيه من الأذية والانقسام والضياع
و تشتد الخلافات بكل اللغات واللهجات والأساليب باختلاف الغرائز والعيوب والمزايا الإنسانية اللهمّ إلّا لغة الحب والتضحية فهي اللغة الوحيدة الصامتة وتعلو الأصوات النرجسية التي تدّعي حمايته بأشكالها المختلفة من النفاق إلى الحقد وتختلف أساليب التعبير الديمقراطية عن هذا الاختلاف والخلاف بين القتل والشنق والذبح و السحل والتقطيع والتفجير والتدمير والكلّ على ذات الإدعاء "هذا من أجل حماية وإنقاذ الوطن" وكلّ يعد أنّه سيقدم الغالي والرخيص كي لا يسمح لأحدٍ غيره أن يحكمه أو أن يمتلكه
ويبدأ الاقتتال من غير أن يأبه أحدٌ للحمه المنهوش
ويشتد العراك بلا اكتراث لما يتكسّر من عظامه
و يحمى وطيس الحرب بلا مبالاة بالأجزاء والأشلاء التي تتقطع
ويبدأ تبادل إطلاق الكلام والنار والقذائف والصواريخ من غير أن يهتم أحدٌ لما تحطّم وما تدمّر وما تخرّب
فالمهم والأهم ألّا ينتزعه أحدٌ آخر بسحبه إلى جهته في دائرة الطباشير أو في أسوء الأحوال عدم السماح له بالحصول على الجزء الأكبر منه بعد تمزقه نتيجة الشد من كل هذه الاتجاهات والقوى والتيارات من مختلف الأطراف والطوائف والعشائر والمذاهب
وقد صار الوطن ابناً . . . لم يبقّ من أملٍ إلّا أن نكون موالاة و معارضة بقدرة تلك الأم على العطاء . . .
أن نشبك أيدينا وأفكارنا وإحساسنا معاً للمّ الشمل والبناء بعد أن أكثرنا من مدّها للتمزيق والتقطيع. . .
أما إن بقي في الحلق غصة وفي القلب حرقة فلنتذكر :
أنّ السكوت عن الفساد مهما عظم ليس أكثر معاناة . . .
و مسامحة من لم يقتل أو يخرب الوطن ليست أقسى . . .
و التغاضي عن هفوات المغرر بهم لن يكون أشد إيلاما . . .
من التضحية بالوطن .