news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
ثمن الغربة... بقلم : أحمد عودة

في حفل وداع بسيط تم تكريم المهندس محمد بعد مرور خمسة و عشرين عاماً قضاها في مدينة أبها السعودية حيث أكد المدير العام للشركة في كلمة الوداع اللطيفة التي ألقاها أمام بعض الحضور إن شركتنا لا يمكن أن تنس تلك الأيادي البيضاء التي تعبت و كلت وعملت بكل شرفٍ و إخلاصٍ من أجل الرقي بهذه الشركة و تحويلها من مجرد مكتب هندسي بسيط إلى شركة هندسية استشارية ضخمة تعتبر من أكبر شركات المملكة .


و لولا الأزمة الصحية الحرجة التي تعرض لها كبير المهندسين في هذه الشركة لكان من المستحيل الاستغناء عن خدماته الجليلة التي قدمها و لكن هل جزاء الإحسان إلا الإحسان وحيث إن صحة السيد محمد و حياته هي فوق كل مصلحة واعتبار و تم بعون الله الموافقة على استقالته و صرف جميع مستحقاته المالية و تقديم العديد من الهدايا الرمزية تعبيراً عن الشكر و الامتنان لهذا الرجل العظيم الذي أفنى حياته في سبيل علمه و عمله.

 

استلقى على الكرسي الطائرة و ألقى نظرة الوداع الأخيرة على تلك المدينة الجميلة التي أخذت  منه أحلى سنين عمره و مرت هذه السنين مرور السحاب بكل ما حملته معها من مشاعر فاختلط نغمات الفرح مع أهات الحزن و تاه الطموح مع الواقع وأصبح كل شيء في ذمة الزمان وطي النسيان إلا شيئاً واحداً لا يمكن أن ينساه هو طعم العلقم الذي لا يعرف مذاقه إلا من أنكوى بنار الغربة و شعر بآلام الوحدة .

 

أغمض عينيه من حرقة الدمعة في المحاجر و مر عليه شريط الذكريات كالحلم أمام ناظريه فلم يستطع في تلك اللحظات إلا أن يتذكر أمه التي ماتت دون أن يودعها قالت له: تعال ...تعال فقد كفانا الاشتياق تعال ...تعال و أرحم والدتك من حرقة الانتظار تعال.. فأنا لم أعد أقوى على الفراق .... وعدها أن يزورها في عطلة الصيف القادم و لكن القدر كان أسرع  و حصدتها رياح الشتاء العاتية حتى قبل أن تشم نسمات الربيع الآتية , ماتت وفي قلبها لوعة على ابن ملت من رؤية صورته على الجدار و لم تلمس راحتيه في أخر المشوار .

 

و حمله شريط الذكريات إلى وجه زوجته الصبوح تلك المرأة الحديدية التي لا تكل و لا تمل في سبيل إسعاد الأولاد و تأمين مستقبلهم و زيادة تحصيلهم العلمي فسمير ابنه البكر قد تخرج العام الماضي من كلية الاقتصاد قسم إدارة الأعمال و هو يستعد الآن للزواج و ابنه الأصغر أمير لازال يتابع دراسته في الهندسة المعلوماتية و ما هي إلا سنتان حتى يتخرج و أما آخر العنقود المدللة أبدا ياسمين فهي أيضا على أبواب التخرج من قسم اللغة الانكليزية في كلية التربية .

 

لقد مل من الوحدة  و ملته أيام الانتظار .. فشيء فظيع أن تأكل كل يوم لوحدك وأن تشرب القهوة من فنجان واحد و أن لا تجد من يغطيك إذا غلبك النعاس على الأريكة  شيء يدعو للجنون عندما تجد من حولك كل شيء ثابت ولا يوجد من يرد عليك حتى تحية الصباح و إن أكثر ما كان يزعجه عند شراء الهدايا للأولاد هو عدم معرفته مقاساتهم و لم يستطع أن يتذكر حتى لون عيونهم فشعر أن ثمن الغربة باهظ دفعه من عمره بدون مقابل .

 

حطت الطائرة رحالها بسلام و أمان و استقبلته زوجته و الأولاد و تبادلوا القبلات و العناق و انطلقوا فرحين  غانمين و لقد حاول السيد محمد أن يخفي لونه الشاحب و نقص وزنه الكبير بعد الأزمة القلبية التي تعرض لها و لكن الحمد لله مرت الأمور بسلام ولم يسأله أحد عن صحته ..  وبعد أن تناولوا طعام الغداء ومع أول رشفة من كأس الشاي نقل إليهم هذا الخبر السار بأنه ترك بلاد الغربة و عاد ليعيش بينهم للآبد و كان وقع هذا الخبر عليهم غريباً و ساد من حولهم صمت قاتل لم يتخلله إلا نظرات العتب و اللوم و الاستغراب ولم يقطعه إلا صوت المدام حيث قالت : لابد انك تمزح و عندما لاحظت إن الجو لا يحتمل أي مزاح تابعت و قالت وماذا ستفعل هنا و مصروف البيت و أجرة الشغالة و تابع ابنه الكبير : بابا أنت لم تفكر إلا بنفسك وماذا عني أنا و عن كسوة شقتي لقد وعدتني بذلك .. و رد عليه ابنه الأصغر : بابا لقد ورطتني وماذا عن قسط السيارة و حتى ابنته المدللة ذكرته بأقساط المعهد و برحلتها هذه الصيفية إلى بريطانيا لمتابعة دروس اللغة الانكليزية .

 

و مر الأسبوع الأول ولم ير من زوجته و أولاده إلا نظرات اللوم و كأن كل واحد منهم يتمنى عليه لو بقي هناك فترة أطول.

أما في الأسبوع الثاني فزادت الفجوة و جد إن الذي يفرقه عن الأولاد أكثر بكثير من الذي يجمعهم بهم  و ما عادت الكلمات تحمل أكثر من هذه المعاني  و أحس هنا بطعم الغربة بين الأهل  أكثر و بساعات النهار أطول وتحطم الحلم الذي كان يعيشه طيلة خمسة و عشرين عاماً و بماذا بعد اليوم يحلم و ماذا ينتظر ....

و في اليوم التالي و مع أول خيوط الفجر حمل حقيبته الصغيرة و تسلل بهدوء خارج المنزل حيث لم يشعر به بعد ذلك أحد .

 

وبعد عدة شهور وفي أحد أحياء مدينة أبها السعودية اشتكى سكان المنطقة من رائحة كريهة تخرج من أحد البيوت فاستدعوا رجال الدفاع المدني الذين كسروا الباب و أخرجوا جثة رجل عاش وحيداً و مات وحيداً و لم تنقل الجثة إلى بلده لأنه طلب في الوصية أن يدفن في الديار المقدسة .

 

تمت

2011-05-30
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد