انه يوم الجمعة... يوم عيد المسلمين و عطلتهم الأسبوعية ففيه كانت تقام الأفراح و تعقد المناسبات و تكثر الرحلات و تنتشر حلقات الدبكات و بعد صلاته تزهو بزوارها المنتزهات و تقام على ضفتيها الموائد و المضافات ... يعود الطلاب إلى ديارهم و الموظفون إلى قراهم و تجتمع الأحبة بدون ميعاد و يصل المسافرون بلا ميقات يودّعون أسبوعهم الطويل و يطوون معه كل ما حمله لهم من أفراح و أتراح.
أما الآن فقد أصبح يوم الجمعة كابوس مخيف و همُّ كبير نحمله في صدورنا من أسبوعٍ لأسبوع يتسمر الناس في بيوتهم أمام التلفاز يحصون قتلاهم و يتحسرون على ماضيهم القريب و يحتسبون لمستقبل أطفالهم المجهول ... الطرقات مكفهرة و الاتصالات مقطوعة و الحواجز تقطع أوصال البلاد و تباعد بين جنباته .
وحدها الطيور تنتقل يوم جمعة من مكان لمكان تزقزق فرحةً و لا تعد الأيام...
أما في إحدى قرى الشمال فان يوم الجمعة هذا الأسبوع كان مختلفاً حيث نتناوب نحن ثلاثة مجندين على حراسة إحدى المنشآت الرسمية و كان يوم جمعة بالنسبة لنا يوماً إدارياً نغسل ثيابنا و ننظف محرسنا و نتفن بطهي طعامنا و ندون بعض ذكرياتنا .
و بدأت قصتنا بعد صلاة الظهر حيث سمعنا من بعيد صوت إطلاق أعيرة نارية و بعده بقليل صوت سيارات الإسعاف و علمنا من بعض الجوار إن الأمور في القرية المجاورة ليست على ما يرام فهناك حالة غليان بين الأهالي بعد أنباء عن سقوط جرحى و الفوضى تعم المكان و بعدها بقليل انتقلت عدوى الفوضى إلى قريتنا بعد الحديث عن نقل ثلاثة جرحى إلى مستوصف القريب منا و أحدهم على ما يبدو أضحى شهيداً بعد أن فارق الحياة .
فصعدنا إلى سطح البناء الحكومي لمراقبة الوضع و معرفة الخبر اليقين و إذ بعدد من الدراجات النارية و معهم عناصر ملثمون يهرعون نحونا و يحملون معهم ما خف وزنه و زاد بطشه وقبل أن يقتربوا منا بدئوا بإطلاق النار في الهواء و يتوعدونا بأقصى العبارات ...
ركضنا إلى المحرس و أحضر كل من بندقيته و صندوق من الذخيرة يحوي ألاف الطلقات و لكن الأوامر كانت بالنسبة لنا واضحةً و قطعية بعدم إطلاق النار و مهما كانت الأسباب و بسرعة البرق أقفلنا الباب الخارجي و أحكمنا إغلاق البوابة الداخلية و تأكدنا بأن الجماعة في الخارج لا ينوون لنا الخير بعد سماعنا صوت إطلاق النار يقترب و صوت تحطم زجاج الواجهات و إلقاء زجاجات البنزين كأنهم قرروا حرق البناء بما فيه , و لم نستطع مواجهة هذا العصيان الذي انهمر كالطوفان فحملنا سلاحنا و ذخيرتنا و قفزنا من فوق الجداران و توغلنا بين الحقول و المزارع المحيطة و لا نلوي على شيء سوى أن ننجو بجلدنا و لا نؤذي غيرنا فاختبأنا في بستان قريب ريثما تهدأ و تعود إلى نصابها الأمور .
وكان الوقت قد تجاوز بعد العصر و بدأت الشمس تلملم أشعتها الذهبية و تسعى بكل هيبتها نحو المغيب و ما زلنا نسمع و بشكل متقطع أزيز الرصاص عندما ظهرت لنا من بين الأشجار امرأة ناصحة في عقدها الخامس تحمل في يدها عصا غليظة و سألتنا بلهجة قوية و لكنها لا تخلوا من نبرات الخوف , انتم ماذا تفعلون هنا .. ارتبكنا قليلاً و مضت عدة ثواني قبل أن نستطيع الكلام و كان كل واحد منا ينتظر صديقه أن يبدأ الحديث .. شرحنا لها إننا عناصر مجندون نقوم بحماية مركز البلدية اضطررنا للهرب مع أسلحتنا و ذخيرتنا بعد الاضطرابات التي تجري في ساحة القرية ريثما تهدأ الأوضاع . و على ما يبدو أن كلامنا قد لامس شغاف قلبها و تغلب حبها العفوي لوطنها ولجيشه عن أي مشاعر أخرى و عادت و قلّبت نظراتها فينا و قالت هيا اتبعوني ....
و عندما وصلنا إلى إحدى الغرف المتطرفة في البستان أخرجت من صدرها مفتاح طويل و فتحت الباب و قالت: ابقوا هنا و لا تغادروا المكان. دخلنا فشاهدنا غرفة كبيرة و في طرفها مولد كهرباء و من الجهة الأخرى خزان كبير للوقود و بعض أكياس السماد متناثرة في المكان.
و لم تمض أقل من ساعة حتى عادت و دقت علينا الباب و أحضرت لنا ما تيسر لها من طعام العشاء و كنا نتضور جوعاً بعد أن فاتنا طعام الغداء و ناولتنا أيضاً شمعة و عود ثقاب و قالت إياكم أن تشعلوا المصباح الكهربائي لأنه بعد قليل سيأتي زوجي و الأولاد من الحصاد وهي تخشى علينا و عليهم من عواقب الأمور و طيش الشباب .
و بعد قليل أحضرت لنا أبريق ساخن من الشاي و بعض الوسائد و الأغطية الثقيلة حاولنا أن نشكرها و ندعوا لها لكنها نهرتنا بعنف وقالت: تغطوا جيداً يا أولاد فأنا منذ الآن خالتكم أم منصور وفي الصباح .. رباح.
و كم كانت تلك الليلة طويلة و مخيفة و كان كل منا يفكر في مصيره و هل أحسنا صنعاً بالهرب أم كان من الأفضل أن نبق و ننتظر المجهول ولكن شيء صعب أن تختار بين أمرين لا ثالث لهما أما أن تكون القاتل أو المقتول.
و على ما يبدو في النهاية انتصر التعب و البرد على القلق و الخوف و نمنا نوماً عميقاً لم يوقظه إلا أيادي أم منصور الطاهرة و هي تطرق الباب و تحمل في أيديها إبريق حليب و طعام الإفطار و أكدت لنا إن الأمور بخير و علينا الإسراع بالإفطار و تجهيز أنفسنا فلدينا بعد قليل مشوار هام , لم نكن ندري ما كانت تنوي عليه و لم نعرف لماذا سلّمنا أمرنا لهذه السيدة العجوز ربما لأن كل واحد منا كان يرى فيها صورة أمه و دعائها الحنون.
أحضرت عكازها وقالت هيا يا أولاد فطلبنا منها الذهاب أولاً للاطمئنان على حالة المفرزة وفي الطريق و أثناء اقترابنا من سوق الخضرة حاول بعض الشباب الطائشين التعرض لنا و كيل بعض العبارات المسيئة لنا لكن أم منصور رفعت عكازها في وجههم و طلبت منهم الابتعاد و قالت لهم هؤلاء هم جنود الوطن و قد أقسموا للدفاع عنه و تقديم أرواحهم رخيصة في سبيله و قد خاطروا بأنفسهم و رفضوا إطلاق و لو رصاصة واحدة في وجهكم و يجب علينا لو كنا فعلاً نحب هذا البلد و نتمنى الخير له أن نمسك يد بيد و كتف بكتف في وجه كل من يحاول زرع الفتنة بين أفراده .
وبعدها بلحظات مرت من أمامنا جنازة الشهيد ولم نشعر إلا و نحن معهم نحمل نعش الشهيد و ننادي بأعلى صوتنا لا الله إلا الله و الشهيد حبيب الله و أم منصور تبكي ابن جارتها و ترش فوق نعشه الزهور و تقول ايد واحدة .... ايد واحدة ... الشعب و الجيش ايد واحدة ...